من «كولن» وإلى «الجحيم العادل»!
لم تنته حتى الآن «التداعيات الإعلامية» لحادثة التحرش في مدينة كولن الألمانية في ليلة رأس السنة، وآخر ما حرر هو «إبداع» شارلي ايبدو العنصري الجديد، إذ أطلقت كاريكاتيراً يقول بأنّ الطفل السوري إيلان لو لم يغرق لكان كبر ليغدو «متحرشاً»!
أول ما ينبغي تسجيله في «حدث الساعة» هو: أنّ بداية تغطيته الإعلامية جاءت بعد وقوعه بأربعة أيام، وجاءت تغطية واسعة اجتازت الحدود الألمانية لتدخل وسائل الإعلام الأوروبية جميعها جوقة عنصرية واحدة خلال ساعات قليلة.
الأمر الثاني: هو ضبابية «الحدث» نفسه، فتارة هو تحرش وأخرى اغتصاب، وتارة جماعي وأخرى فردي، وما أثبت في نهاية المطاف، هو حالة اغتصاب واحدة.
وبغض النظر عن عدد الحالات ونوعيتها، فإنّ الإعلام خلع على نفسه لبوس القضاء بتعامله مع المشتبهين الثلاثين على أنهم متهمون لا مشتبهون، وجنسيات هؤلاء بمعظمها غير أوروبية وبينهم عدة سوريين.
إضافة إلى ذلك، فإنّ الوقوف عند الأرقام الخاصة بقضايا الاغتصاب في الدول الأوروبية تسمح برؤية المشهد على حقيقته، ففي الوقت الذي جرى العمل فيه على إلصاق سمات محددة باللاجئين تخصهم دون غيرهم، فإنّ الإحصاءات والأرقام تبين أنّ مسألة الاغتصاب هي مسألة شديدة الشيوع ضمن المجتمعات الأوروبية وعلى أيدي الأوربيين أنفسهم، من ذلك مثلاً دراسة أجرتها جامعة كامبريدج خلصت إلى أنّ ثمانين بالمائة من حوادث الاغتصاب التي تجري ضمن المجتمع الجامعي لكامبريدج لا يتم الإبلاغ عنها، ومعلوم أنّ «المجتمع الجامعي» إياه «مجتمع راقٍ»، فكيف ببقية فئات وطبقات المجتمع الأوروبي..
ضمن المعالجة الإعلامية نفسها تبين خلال اليومين الماضيين أنّ جزءاً من الصور والفيديوهات التي نشرت في بعض وسائل الإعلام على أنها تخص حادثة كولن هي صور من أماكن وأحداث أخرى قديمة في مصر وغيرها.
بالمحصلة يبدو واضحاً الاستثمار المقصود للحدث على مستويين أساسيين، ألماني داخلي على أساس الانقسام في التعامل مع قضية اللاجئين الذي تحفزه حسابات الأطراف السياسية الألمانية بين حدين الأول: متعلق بالتكاليف والثاني: بالأرباح المطلوبة من مسألة اللاجئين خصوصاً لجهة العجز البشري الكبير ضمن المجتمع الألماني للقوة العاملة، وتسجل الأرقام أنّ نسب حاملي الشهادات الجامعية بين اللاجئين السوريين هي الأعلى مقارنة بمختلف اللاجئين، بل وتتجاوز نسب حملة تلك الشهادات في عدة دول أوروبية!
المستوى الثاني: هو مستوى أوروبي عام، حيث يستمر العمل على تصعيد النزعات المتعصبة قومياً ودينياً بما يخدم النازيين الجدد والفاشية الجديدة التي تضع على عاتقها مهمة إحراق أوروبا من الداخل، وبأيدي شعوبها والمهجرين إليها، منعاً لهذه الشعوب من الانتظام لحل المشكلات الاقتصادية المتزايدة باطراد.
على المقلب الآخر، الشعبي العربي، ظهر اتجاهان أساسيان في التعاطي مع الحدث، الأول: دوني (أورومركزي)، حاول التبرؤ من الحدث بأكبر قدر ممكن من «جلد الذات» و«الاعتراف» بتدني العرب والمسلمين وبكونهم مطابقين للصفات الأوروبية التي تطلق عليهم. الاتجاه الثاني: الذي تعزز نتيجة ظهور النفس المتعصب وغير الإنساني لبعض الإعلام الغربي وخصوصاً شارلي ايبدو هو اتجاه متعصب أيضاً عروبياً وإسلامياً، لا ضد الحكومات الغربية فقط، بل وضد الشعوب الأوروبية أيضاً..
بين هذا وذاك، وعلى المستوى الشعبي، العربي والأوروبي، يظهر اتجاه ثالث «قليل العدد والعدة»، يحاول أن يتعاطى مع المسألة بشكلها الواقعي الموضوعي.. فمسائل الاغتصاب والتحرش والعنف ضد المرأة عموماً تتعلق بمسألتين أساسيتين: ذكورية المجتمع الرأسمالي بكامله، بل والمجتمع الطبقي ككل، لا ذكورية أقسام أو أجزاء منه، والمسألة الثانية هي: أنّ هذه القضايا تزداد بازدياد التهميش والفقر والتفاوت الطبقي..
بالإضافة إلى هذين العاملين، فإنّ درجات انحلال المجتمعات وتفكك روابطها الإنسانية والاجتماعية تزداد ضمن المجتمعات القائمة على الاستهلاك المتوحش، وهذا الانحلال يشمل نواحي الحياة وتفاصيلها جميعها.
بالمحصلة فإنّ المحزن بالحدث واستغلاله الإعلامي، أنّ المتضرر الأول منه سيكون اللاجئون الذين هربوا من جحيم الموت وعانوا أشد صنوف العذاب، لتتلقفهم الآن أخطار تعصب عنصري جديد تحيق بهم وبالشعوب الأوربية في آن معاً، وعلى قدم المساواة!
بما يشي بأن الحكومات الغربية والاتجاه الفاشي ضمنها تحديداً، يسعى جهده ليقيم في الأرض عدله الجحيمي الذي يشمل بنيرانه الجميع..