التاريخ الذي خرج من المطابخ

التاريخ الذي خرج من المطابخ

هناك أحداث كبرى كان لها دورها في تغيير مسار التاريخ الإنساني. هذا ما يتفق عليه جميع المؤرخين الذين خلّدوا تلك الأحداث في أعمالهم. لكن المؤرخة والأستاذة الجامعية الفرنسية ماريون ف. غودفروا، والأستاذ الجامعي كزافييه ديكتو، يقدمان كتاباً يؤكدان فيه أن موائد كبرى أسهمت هي أيضاً في تغيير مسار التاريخ. والكتاب يحمل عنوان «حول مائدة التاريخ».

ويوضح المؤلفان أن التاريخ زاخر بالموائد والمآدب الكبرى، والتي كان لها دور في صياغته، وهذه هي المقولة التي يحاول المؤلفان البرهنة عليها على مدى صفحات كتابهما الـ300. وهما يعودان للحديث عن المآدب الآثينية-اليونانية القديمة.

وللعشاء الأخير للملك هنري الرابع، ولكن أيضاً لمائدة غوستاف إيفيل، الذي أشاد برج إيفيل الشهير بباريس، في يوم المعرض العالمي والكوني، ومائدة تنصيب باراك أوباما كرئيس للولايات المتحدة. وبهذا المعنى يشكل الكتاب، نوعاً من التأريخ للعالم، من خلال وجبات الطعام، من الأمس البعيد وحتى اليوم.

والصفحات الأولى من هذا الكتاب، مكرّسة لتاريخ المطبخ، منذ العهود القديمة وحتى يومنا هذا. ومن نقاط العلاّم الأساسية في هذا التاريخ، استخدام الطهي على أحجار مسطّحة، ثم الأوعية المصنوعة من الفخّار، والتي أتاحت زيادة أنماط الطهي، وحدّت من مخاطر حرق الأطعمة. وكان اكتشاف الملح والدسم والطحين والحبوب، عاملاً أساسياً في «ثراء ثقافة المطبخ».

وفي أوروبا ظهرت المعجّنات في القرن التاسع، حيث أخذت بعض المدن أهمية متعاظمة، عبر تنظيم الأسواق والمعارض، الأمر الذي تزامن مع تطوّر المهن المتعلّقة بالغذاء وبالأغذية وتنظيمها، حيث كان الخبز يباع لدى تجّار الأحياء، مثل: التوابل. وفي القرن الثالث عشر، ظهرت الأفران وتعددت أدوات الطبخ مع «اختراع» المقلاة والحلل وغيرها. وجاء اكتشاف ماركو بولو لطريق الهند، كي يشجّع تجارة التوابل. لكن لم تكن توجد آنذاك أطباق (الصحون)، التي كانت تحل محلّها «شرائح سميكة من الخبز». وكان الضيوف يتناولون الطعام بأيديهم، ويقومون بمسحها بغطاء الطاولة.

مع اكتشاف أميركا «العالم الجديد»، وصلت منتجات جديدة، الأمر الذي ظهرت آثاره خلال المأدبة التي أقيمت بمناسبة زواج كاترين دو مدتشي، والملك لاحقا، هنري الثاني. وكذلك المأدبة بمناسبة زواج ماري دو مدتشي، والملك هنري الرابع. وكان الحدثان بمثابة الإعلان عن بداية «نفوذ إيطالي مهم»، على مستوى فن الطبخ. ومظاهر ذلك النفوذ بدت مع استخدام «الشوكة ذات الشعبتين»، واستخدام صحن منفرد من الفخّار. وكذلك أصبح غسل اليدين بعد الطعام، ممارسة شائعة.

وفي عام 1674، جرى افتتاح أول مقهى في باريس، تحت اسم «بروسكوب»، أي ما يعني مكان لقاء المفكرين. ثم انتقل تدريجيا فن المطبخ، كي يصبح بمثابة علم، له أصوله وأخصائيوه. وولدت في مثل ذلك السياق الصناعة الغذائية. وكان قد جرى افتتاح أول مطعم في باريس في عام 1782.

وهذا التاريخ الرسمي لتطور فن الطبخ، سبقه كما يشرح المؤلفان، روّاد في عالم الطبخ، من أمثال المدعو «إبيسيوس» الذي يريان فيه منذ القرن الأول قبل الميلاد، أول روماني متذوّق للطعام وعاشق لمذاقات الأطعمة ومخترع لفن المطبخ. وكان الفيلسوف ناسيت قد تحدث عنه كشخص كان تأثيره في مجال الطبخ قابلاً للمقارنة مع ميسين في المجال الثقافي. وبالمقابل كان «سينيك» قد أعلن عن غضبه من رفع «أشياء الطبخ» إلى مصاف العلم.

ومن ثم تحوّلت المآدب، كي تصبح ممارسة معهودة في قصور الملوك وفي المدن حتى اليوم. وأخذت هذه المآدب شهرة لا تزال ترافقها حتى اليوم الحاضر. وهكذا اقترن اسم بعض مارشالات الإمبراطورية الرومانية وغيرها من الإمبراطوريات الأوروبية التي تبعتها، ببعض الوجبات، مثل نابليون و«شرائح كبد الأوز» و«دوق ريفولي» بباريس، وجاكلين كندي التي عُرفت كمستهلكة كبيرة لـ«الكركند، حيوان بحري»، وكانت مأدبة تنصيب باراك أوباما كرئيس للولايات المتحدة الأميركية حافلة بـ«ثمار البحر».

وكما يتم الحديث عن أمراء الشعر وملوك البلاغة، يتم الحديث أيضاً عمّن يعادلهم في عالم الطبخ والمطبخ. وهؤلاء أيضا خلّدوا أسماءهم «حول مائدة التاريخ».