المهد وترانيم الأمهات
من منا يمكن أن ينسى ما كانت «تدندنه» له أمه عندما كان طفلاً صغيراً، ومن منا يستطيع أن ينكر الأثر النفسي والعمق الروحي والقيمي الذي تبثه الأمهات في الروح، سواء عبر مفردات وعبارات وقصص مازال يذكرها، أو عبر لحن «الهدهدة» والترنيمات، تشربها وجدانه بعمق عندما كان صغيراً ذات يوم.
الأكثر صدقاً..!
بعيداً عن ثقافة الإعلام الموجه، والتي باتت تشوهنا غالباً، وبعيداً عن كتب التاريخ، وما سطره «المنتصرون» فيها، وما تحمله في طياتها أحياناً من جرعات ثقافة الحقد والكراهية؛ نشأت تلك الثقافة المتوارثة شعبياً، وسطرت التاريخ بجوهره الإنساني والقيمي العام نوعاً ما، سواء ما جاء منها على شكل حكايا «شعبية»، أو «حكايا الجدات»، أو الأغاني والأهازيج.. وغيرها من أجناس أدبية موروثة، أطلق عليها اسم الفلكلور الشعبي، وكان هذا فعلياً مرآة عاكسة للمجتمع وقضاياه المتنوعة والمتشعبة، استخدمت تلك اللغة أو الأشكال العفوية والبسيطة التي توصل عمق وجوهر الفكرة وتسرد الأحداث التاريخية، بعيداً عن الصنعة والتكلف، رغم الشكل الشعري الخاص الذي يغلب عليها، والنموذج اللحني الذي يصاحبها، وبعض نماذج وأشكال الجناس والطباق اللغوي المضاف إليها أحياناً، حسب ما يكتنزه كل شعب من الشعوب، أو حتى كل بيئة من خصوصيات بهذا المجال.
ومن أهم أوجه وأشكال تلك التبويبات الفلكلورية، ما يعرف بأغاني وحكايا المهد أو «الهدهدة والترنيمة» الموجهة للأطفال.
جنس أدبي خاص
استعانت الأمهات عبر التاريخ بالغناء والأهازيج والدندنة والقصص المشوقة، من أجل «هدهدة» الأطفال في مهدهم، بغية جعلهم ينامون بعمق، أو التخفيف عنهم عند المرض وتحويل انتباههم عن الآلام والتعب، أو إكسابهم تلك المهارات الحياتية من أجل مستقبلهم ومجتمعهم.
إنه جنس أدبي موروث، له طابعه الخاص، رغم أنه موجه للأطفال، لكنه يكتنز تلك الثقافة الشعبية الموروثة تاريخياً، عاكساً قضايا المجتمع وهمومه الفردية والعامة، بلغة بسيطة يدرك الطفل جوهرها وكنهها بيسر وسهولة، فتتعمق في وجدانهم قيم إنسانية خيرة، كما تشير إلى الأعمال والأفعال الشريرة، ولكن دون أن تترك أثراً لحقد أو كراهية تجاه الآخر.
غالباً ما تكون تلك الحكايا والأغاني والترنيمات المحملة بعواطف الأم وحنانها، ذات صيغة عامة وغير محكومة بزمان ومكان، فتفسح المجال أمام مخيلة الطفل لتكون واسعة الأفق، وتساعده على بناء ذاته وتقويتها والاعتماد على نفسه، مع ما تحمله تلك الحكايا والأغاني من جرعات الأمل بمستقبل جيد للطفل، مغلف بالأمان المستمد من تواجد الأم وحنانها، والألحان المصاحبة للدندنة أو «الهدهدة»، فتساعد على إيصال رسالة الأم بعفوية وبساطة دون تكلف.
إنه إرث ثقافي ومعرفي، شعبي، وعفوي وبسيط، تمارسه الأمهات كما ورثنه ممن سبقهن من الأمهات والجدات، دون تكلف وعناء، ولكنه يعتبر من الأنماط التربوية الأساسية والهامة المخصصة والموجهة لأطفال المهد، وذلك لما فيه من جرعات فائضة عن قيم الخير والصدق والحق والعدل، بمواجهة الشر والخطأ والباطل والظلم، مع التركيز على أهمية قيم المساعدة والتعاضد الاجتماعي ذات البعد والعمق الإنساني المرتبطة بالسلوك الفردي البعيد عن الأنانية.
شعوب مختلفة.. وأمومة واحدة!
رغم اختلاف وتباين خصوصيات الشعوب، إلا أنها تشترك قيم الأمومة، والتي يعبر عنها ذلك الإرث المنقول في أغاني وحكايا الأمهات التي توارثتها الأجيال عبر التاريخ، باختلاف صيغها وشكلها، ولعل ذلك مرتبط أولاً وقبل كل شيء برغبة كل أم أن تبث عاطفتها نحو طفلها بلغة بسيطة يدركها الطفل، كما ترغب على تنشئته قوياً معتمداً على ذاته، بالإضافة إلى رغبتها بأن يكون فرداً فاعلاً بمجتمعه، متعاضداً معه ويمكن الاعتماد عليه في بنائه مستقبلاً، وغالباً ما يساعد المجتمع في ذلك، بهذا الشكل أو ذاك، تبعاً لخصوصية المجتمعات وموروثها.
ولا نجافي الحقيقة ربما عندما نقول أن تلك العفوية والبساطة، والرغبة الدفينة غير المبوبة أو المدروسة لدى الأمهات، وبمساعدة المجتمع وتعاضده معها رغبة منه في تقوية روابطه وبناء وتطوير أفقه ومستقبله، هي ما جعل من قيم الخير والعدالة والإنسانية، وغيرها من القيم والمثل الإيجابية، متوارثة ومتواترة من جيل لآخر، أو حتى من شعب لآخر، بمواجهة قيم الشر والظلم والخطأ وغيرها من القيم المنبوذة مجتمعياً وإنسانياً.
إبداع أنثوي
ولعله من الإنصاف أيضاً، القول أن أول الجمل الموسيقية التي أبدعتها البشرية، كانت هي الترنيمات والهدهدة الموجهة للطفولة، كما أن بذرة الحكايا والقصص هي تلك التي حكيت ووجهت للأطفال في المهد، وهي على ذلك إبداعات أنثوية، جوهرها عاطفي أمومي، ذات بعد مجتمعي قيمي وإنساني عام.