دوريس لسنغ تنبش خفايا الروح الإنسانية

دوريس لسنغ تنبش خفايا الروح الإنسانية

نالت الكاتبة الانجليزية دوريس لسنغ، جائزة نوبل للآداب على مجمل أعمالها الروائية، ولكنها كتبت أيضاً مجموعة من المقالات والدراسات عن سلوكيات البشر وعن المدارس الفكرية والنقد الأدبي والثقافة ومواضيع أخرى كثيرة، وما تعتبره هذه المؤلفة في عداد أفضل تلك الكتابات، تجمعه اليوم في كتاب يحمل عنوان «وخزة الزمن».

 

 

تردد الكاتبة، والتي تجاوزت سن التسعين، ما كان الشاعر غوته قد قاله في السنوات الأخيرة من عمره المديد، ومفاده انه كان قد «تعلّم القراءة للتو»، وهي ترى فيما تقدّمه بهذا الكتاب ثمرة ما كانت قد تعلمته خلال حياتها والذي يمكن أن تلخص جوهره الجملة التالية: «قراءة العالم بطريقة أخرى»، وعبر هذه القراءة تحاول رسم «خفايا الروح الإنسانية»، وآمال البشر ورغباتهم وأشكال ومصادر خوفهم.

ذلك على خلفية إيمانها الشديد، كما تصرّح بوضوح، أن وظيفة الأدب أساساً هي أن يتحلّى بقدر كبير من نفاذ البصيرة بمواجهة التزوير والتمويه الذي تمثله الكوميديا الاجتماعية. هكذا تتردد في رسم انجلترا، بلادها، كصورة ليبرالية تسمح بكل شيء تقريباً، شريطة أن «يحافظ البيض والسود على المسافة التي تفصل بينهم».

وفي النص الأول من المساهمات التي يحتويها هذا الكتاب، توجّه دوريس لسنغ هجومها اللاذع ضد جميع أشكال الرقابة التي تستهدف حريّة الفكر، باسم مجموعة من القوالب الجاهزة التي لا يُسمح بالخروج عليها. إنها تهاجم بشكل خاص ما تسميه «الطغيان المرعب».

والذي تتم ممارسته تماشياً مع ما تتطلبه المواقف السياسية الصحيحة، أي تلك التي تتماشى مع وجهات النظر السائدة. وتشير بهذا الصدد إلى أن إحدى رواياتها، وتقصد تلك التي تحمل عنوان «الإرهابية»، كانت ضحية مثل تلك الرقابة في إحدى مدارس ولاية كاليفورنيا الأميركية.

هناك هدف آخر لنقد دوريس لسنغ يتمثّل في هجومها الحاد، وبأشكال مختلفة، على الحكومات في العالم الغربي، إنها لا تتردد في وضع هذه الحكومات وأصحاب القرار السياسي في الدول المعنية بقفص الاتهام، أما التهمة فهي بالتحديد قلة اهتمامها بتشجيع الثقافة، وهي تؤكد القول إن: «التربية التي يتم النظر إليها بمثابة وسيلة تفتح الإنسان يراها المجتمع الحديث من دون فائدة».

الوجه المقابل لما تدعو اليه المؤلفة، ضرورة تدعيمه والخوض فيه، فلا تبخل في التأكيد على ضرورة «الشجب الصريح والواضح والقوي» لمظاهر أخرى تزخر بها حياة البشر اليوم وفي مقدمتها عمق واقع غياب المساواة وتفشّي الرقابة وكل أشكال الفكر الظلامي، هذا فضلا عن الإرهاب.

تشير المؤلفة إلى أن السنوات العديدة تقارب ربع قرن من الزمن- التي أمضتها في المستعمرة البريطانية السابقة «روديسيا»، وكانت هي الحاضنة الاجتماعية التي ولّدت لديها المزاج المتمرّد، ثم إن ما عرفته آنذاك من شروخ ونزاعات اجتماعية .

ومن أشكال التخريب التي مارسها النظام الاستعماري والحروب، يجد مقابله اليوم لديها في نظرة نقدية على الوضع السائد في المستعمرة السابقة التي أصبحت تسمّى اليوم زمبابوي، منذ الاستقلال، إذ يسود فيها نظام دكتاتوري، إن المؤلفة لم تنس شيئاً، كما تقول، من أفعال التاريخ وثمراتها وهي تعود إلى ما تسميه معاركها.

وتعترف من دون تحفظ بأخطائها. يبقى الأدب هو الموضوع الأكثر حضوراً في مجموعة النصوص التي يحتويها الكتاب، ودوريس لسنغ توجّه نوعاً من «نشيد التكريم» لنظرائها ممن سطع نجمهم في عالم الأدب، إنها تعرب عن الكثير من الاحترام والمحبة الحقيقيين للعالم الذي أبدعه ستندال صاحب رواية «الأحمر والأسود»، وتتحدث عن «الصفات الرائعة» لـ د. هـ. لورنس.

ولا تنسى ما تسميه «المغامرات الخاصة» لتولستوي. وتذكر في هذا السياق، عددا من أعمالها الأولى روايات الشباب التي رفضها الناشرون، وتقول: «ينبغي على المرء إظهار قدر كبير من التشدد وعدم الرحمة حيال إبداعه الذي يحبه»، لكن هذا لا يمنع واقعاً أن عملها الشهير «اليوميات الذهبية» قد عرف طبعات، مما يدل على تأثيرها الفكري بالنسبة لثلاثة أجيال متعاقبة على الأقل.

ويضم الكتاب مجموعة من النصوص، عن نساء-أديبات، مثل فيرجينيا وولف وسيمون ودوبوفوار. ويؤكد التزامها بقضية الدفاع عن حقوق المرأة، وأما ما يثير أسفها الكبير فهو تضاؤل قيمة «الإنسان المثقف» لكنها تأمل دائماً أن يعود الوضع كما كان.