الهنود الحمر ودولة كنعان 2/2
تتابع قاسيون استكمال الإضاءة على كتاب (الهنود الحمر ودولة كنعان) الذي وضع فيه الكاتب جهداً بحثياً كبيراً لإبراز الإرث الدموي لتشكيل الشيطان الأكبر، الولايات المتحدة الأمريكية، والتي برزت فاشية جديدة للعصر في ظل هيمنتها العالمية، فيما يبدو أنها تستمد ثقافتها من مشتقات ذلك الإرث الدموي ضد الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين.
بداية، لابد من تفكيك الالتباس الذي أحدثه الكتاب لدى الكثيرين ممن قرأوا العنوان فقط. إذ ليس هناك أي صلة أو مقارنة مابين شعوب الأمم الهندية والشعب الفلسطيني وبالتالي «الدولة الفلسطينية».
الفلسطينيون والهنود ...
هل من مقاربة؟
في لقاء للكاتب مع صحيفة عربية تصدر في لندن (آب/أغسطس 2015) يعيد التأكيد على «المعنى الإسرائيلي لأميركا، وهو فكرة مركزية في كل دراساتي الأميركية، ليس فيه ما يدل، لا من قريب ولا من بعيد على مقاربة بين الشعب الفلسطيني والهنود الحمر. والقول إن فكرة أميركا مستنسخة من فكرة إسرائيل الأسطورية، أو أن كل تفصيل من تفاصيل الغزو البريطاني لشمال أميركا، حاول أن يجد جذوراً له في تلك الإسرائيل الأسطورية، أو أن الموجات الاستيطانية الأولى استنسخت أحداثها وتقمصت أبطالها وعاملت الهنود على أنهم كنعانيون، لا يعني أبداً أن الفلسطينيين صاروا هنوداً حمرًا ونبت في رؤوسهم الريش. هذه المقاربة لا تتم إلا بمنطق الكيمياء السحرية. نعم، هناك كثير من التشابه، بل كثير من التطابق بين الجلادَيْن: جلاد الهنود وجلاد الفلسطينيين، أمّا الضحيتان فمختلفتان تماماً؛ مختلفتان في الزمان والمكان والتاريخ والجغرافيا، كما في التفكير والثقافة ونمط الحياة.
وأهم من ذلك كله اختلافهما في مقاومتهما للغزو وفي حظهما من الانتصار. فسواء طال الزمن أو قصر، ليس من مستقبل لكيان صهيوني في فلسطين».
لهذا، جاءت محاولة تأسيس كيان «هندي كنعاني» كما نادى به المبشر «اسحاق مكوي» أحد أهم منظري ومنفذي سياسية تهجير الهنود وحصرهم في بدائل أطلقوا عليها «دولة هندية، وطن هندي، يعيشون فيه للأبد!» ككذبة كبرى يجترها المفاوضون الغزاة في كل جلسات التفاوض مع زعماء الهنود التي تنتهي بتوقيع معاهدة كما حصل مع هنود الدولاوير، لإقامة ولاية (دولة) هندية، تفضي لترحيل شعوبهم وحصرها في مناطق محددة «معازل/سجون» تمهيداً لإبادتها، كما ظهر بعد أسبوعين من توقيع المعاهدة،عندما تم تسميم «وايت آيز» الزعيم الهندي _ الذي أدار المفاوضات ووقع المعاهدة وعمل على تقديم خدماته من خلال شق الصف الهندي ووضع أتباعه في خدمة الغزاة ضد شعبهم_ بجراثيم الجدري على يد أحد جنود الجنرال «مكنتوش» الذي كان يدير المفاوضات عن الجانب الأمريكي.
في سبيل تنفيذ سياسة قضم وابتلاع أراضي الشعوب الأصلية، انطلقت موجات من الإبادة نفذها «شعب الله المختار» الإنكليزي أولاً، ثم لحقت به شعوب أوروبية أخرى.
وإذا كانت المذابح الوحشية التي مورست على البشر، وحرق المزروعات والأشجار المثمرة التي أبهرت بأنواعها وطرق زراعتها وووفرتها، الغزاة البيض ممن نفذوا أوامر قادتهم كجورج واشنطن وسواه، هي فصل الختام في إبادة مايقارب من عشرين مليوناً من أصحاب الأرض الأصليين، فإن أساليب المراوغة والتضليل التي مارسها قادة المستعمرين/المستوطنين، قد عرفت نصب فخ «تبادل الأراضي» للهنود على يد الرئيس الثالث «جفرسون» وماتبعه من رؤساء، هذا الفخ الذي أعاد نصبه بعد قرنين من الزمن المستعمر الصهيوني الفاشي «إفيغدور ليبرمان» وتلقفه وسوقه بعض المسؤولين العرب...والفلسطينيين.
الرقيق الأسود في خدمة الغزاة
ساهمت سفن شحن الرقيق الأسود في ظهورالعبودية في تجمعات المستعمرين البيض، من أجل تأمين الأيدي العاملة للقيام بالخدمات، سواء في الأرض أو المنزل. فالعبودية «بمعناها العرقي والطبقي» كانت _ومازالت بأشكال متعددة_ جزءاً من «الحلم الأمريكي» لأن «العيش من دون رقيق في هذه المستعمرات، مستحيل أخلاقياً» كما اعترف قديس الاستيطان «وليم بيرد».لهذا انتعشت تجارة الرقيق وراجت سوق النخاسة، ليصبح «اقتصاد الرقيق» مرتبطاً بانتشار وتوسع المستعمرات البيضاء وأحد الأدلة الملموسة على نجاح الديمقراطية الأمريكية. وهذا ماظهر في دراسة حالة العبودية عند عائلة «واشنطن» فوالد جورج واشنطن «أغسطين» وَرِثَ خمسة أرقّاء من أبيه في عام 1715،لكنه وَرَّثَ أولاده أربعين رقيقاً أسود عندما مات في 1743.أما جورج فقد كانت حصته من تركة أبيه عشرة فقط، لكنه عندما مات كان يملك 123 رقيقاً أسود.
من المُتَوحش؟
لم يتوقف سيل عبارات الكذب والتضليل عن وحشية أصحاب الأرض الأصليين، التي ساقها المبشرون والفلاسفة وجنرالات الحرب لتبرير جريمة إبادة عشرات الملايين من الشعوب والأمم التي أقامت عليها منذ آلاف السنين. أبهرت الثروات الزراعية على سطح الأرض أو المعدنية في باطنها، عيون وعقول الغزاة، فاستثارت غرائزهم لاغتصاب كل شيء تصل إليه أيديهم. تعرف المستعمرون لأول مرة على: البطاطا والتبغ والذرة والأفوكادو والفستق السوداني وحقول الشوكولا... ولم يدركوا أهميتها وظنوا أنها من مأكولات «المتوحشين».وبالإضافة لهذا التنوع، فإن الأساليب والطرق المستخدمة في الزراعة والري، أذهلت أولئك الغزاة. وفي هذا الجانب، تأتي شهادة عالم الإنسانيات الأمريكي «جاك وذرفورد» لتوضيح ماحاول المستعمرون،إنكاره «الهنود أكثر شعوب الأرض التي أجرت اختبارات زراعية وتفننت في إنتاج المحاصيل التي لم يعرفها العالم وليس لها من أسماء إلا في لغاتهم». وكما برعت تلك الشعوب في الزراعة، فقد تفوقت في الصناعة أيضاً. فمن صناعة القطنيات إلى صناعة الكاوتشوك إلى صناعة الأصباغ والأواني النحاسية والفضية والذهبية، وغيرها.
على صعيد المجتمع والعلاقات الاجتماعية، كانت ثقافات الأمم الهندية تؤمن بقانون البراءة السائد بينهم منذ قرون طويلة. ويقضي هذا القانون باحترام حياة الإنسان غير المحارب وحريته ومُلكه.كذلك كان الاغتصاب محرما،ً وهو تحريم طبيعي في ثقافة تعلو فيها منزلة المرأة على منزلة أختها في معظم ثقافات أوروبا.ولهذا كان قرار الحرب لايتخذه الرجال الهنود، بل تتفرد به نساء حكيمات يطلق عليهن اسم «أمهات العشيرة».
لنقرأ مايقوله الزعيم «لام دير» من هنود لاكوتا «قبل أن يأتي إخواننا البيض ليمدنوننا ماكان عندنا سجون، لأنه لم يكن عندنا مجرمون.لم يكن لبيوتنا أقفال لأنه لم يكن عندنا لصوص.وعندما يكون بيننا فقير دون حصان او مسكن أو غطاء نتسارع لنهديه كل مايحتاج. نعم كنا( غير متمدنين)».
طين الأرض هو الأبقى
يختتم الكاتب فصول كتابة بشهادةٍ يمكن لها أن تكون «خاتمة هندية» : حين أخفق المفاوضون البيض في معاهدة فورت كروسينغ» أيلول/سبتمبر1879» في إقناع الزعيم الهندي «كروفوت» ببيع بلاده،تقدم منه أحد المفاوضين ونثر أمامه كومة من الدولارات لإغرائه وإغوائه. فأدرك الزعيم أن مفاوضه المتعجرف بطيء الفهم فانحنى إلى الأرض والتقط بكثير من الاحترام حفنة من الطين، كوّرها ثم وضعها في النار، وقعد صامتاً إلى أن تحولت إلى قرميدة صلبة.عندها أخرجها وقال لمفاوضِه:»تفضل الآن، وضع أوراق دولاراتك في النار لنرى ما إذا كانت ستصمد كما صمد طين هذه الأرض». قال المفاوض الأبيض:»لكنها ستحترق، إنها مصنوعة من الورق». وهنا قال الزعيم: «هه،إذن فإن دولاراتك أوهى وأبخس من هذه الحفنة من طين الأرض.مانفع دولاراتك إذا كانت النار تحرقها، والريح تسفعها والماء يعطبها».
هل يمكن لهذه الشهادة أن تكون درساً في فهم قدسية تراب الوطن ؟.