أسئلة عديدة عن نظرة جديدة للعالم والذات!
محمد المعوش محمد المعوش

أسئلة عديدة عن نظرة جديدة للعالم والذات!

هنالك الكثير من الأسئلة التي لم تتبلور بعد عملياً أمام حركة التغيير في سياق التحول الذي يعيشه النظام الرأسمالي العالمي، نتيجة اشتداد وانفجار تناقضات الإمبريالية.

ليست هذه الأسئلة بالجديدة تاريخياً، ولكنّها تطرح الآن بشكل ملموسٍ أكثر من أي مرحلة تاريخية سابقة، فتطور البنية الرأسمالية أنتج العديد من التناقضات الاجتماعية التي لم تكن بهذا النضج خلال القرن الماضي، أي في مرحلة تشكّل التجارب الثورية وصعودها في النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن تشهد تراجعها التاريخي منذ منتصف القرن نفسه.
تشوه الحاجات في ظل الاغتراب
ومن هذه الأسئلة، تلك المتعلقة بالسياسة الثقافية والاجتماعية التي على قوى التغيير أن تطرحها بما يتلاءم مع الحاجات التي ظهرت في سياق المجتمع الرأسمالي نفسه، حاجات غير مرتبطة بالضرورة بالرأسمالية نفسها، والتي لم تقدر هذه الأخيرة - بحكم بنيتها المتعارضة مع الحاجات الانسانية- أن تلبيها، بل عملت على قولبتها وكبحها وتشويهها في سياق نمط الاستهلاك والاغتراب الذي عزز من انفصام التركيبة الشخصية للأفراد، وأنتج معاناة فردية واجتماعية تعبر عنها المسافة ما بين المضمون الذاتي للحاجات وبين أشكال التعبير عنها من خلال الأوهام الذهنية واضطرابات الممارسة والتفكير، والابتعاد عن الواقع، وتفكك العلاقات الاجتماعية بشكل عام، إضافة إلى النمط الاجتماعي المعاش وعلاقاته.
أسئلة ثقافية
 على جدول عمل السياسيين
المهمة الموضوعة على عاتق قوى التغيير، ثقافياً واجتماعياً، يمكن تلخيصها بصياغة النظرة الجديدة إلى العالم، وإلى الذات، وما يعنيه ذلك من إنتاج، واستكمال الإنتاج الثقافي والفني والفكري وتنظيم للبنية الاجتماعية لناحية الأطر وأشكالها، والشكل الحقوقي المتلائم معها، لتكون قادرة على استيعاب الحاجات القائمة، وتلك التي ستظهر أيضا خلال مراحل تجاوز النظام الرأسمالي.
هذه الأسئلة طرحتها العديد من التجارب الثورية في التاريخ، وكانت تُطرح بشكل بارز لدى التجارب الثورية المتقدمة في السلطة وإدارة المجتمع، وأوضحها الأحزاب الشيوعية في الاتحاد السوفياتي؛ والتي لم تنتقل بشكل شامل إلى مرحلة السياسات الواضحة والمطبقة بسبب التراجع الذي أصاب التجربة بشكل عام، وبسبب التملس الأولي لهذه الظواهر من قبلها.
وهي اليوم، كأسئلة، مطروحة مسبقاً على الحركة الثورية، في حين كانت في السباق في مرحلة نضوج في إطار المجتمع الذي يتكون حديثاً وقتها، وبالتالي هي الآن مطروحة منذ انطلاقنا للتفكير بعملية التغيير، وبالتالي هي على جدول أعمال البرنامج السياسي المطلوب تطويره.
 فتعبئة فراغ العلاقات القائمة، والثقافة السائدة، في ظل الرأسمالية، يتطلب الطروحات الجديدة البديلة عنها، كنظرة جديدة إلى العالم، لكي تكون حلاً للتناقضات التي تعيشها البشرية يومياً في محاولتها عاجزة الإجابة عن أسئلتها الوجودية والإنسانية، بالتوازي مع معاناتها المادية، والتي تجنح اليوم إلى أنماط الثقافة العدمية والعبثية والرومنسية.
بعيداً عن انخفاض الجاذبية
هذه الرؤية الجديدة للعالم، وإن كانت بالمنظور العام تتلخص بالاشتراكية، وبالنمو الحر لقوى الإنتاج حين تتحرر من علاقات إنتاج النظام الرسمالي، ولكنها تحتاج إلى ترجمة ملموسة في التعليم والثقافة وتنظيم علاقات العمل والحياة الاجتماعية.. إلخ، بما يسمح بتوظيف الطاقات الفردية الحالية، وتطويرها، وبما يقدم صورة علمية عن العالم، بما فيه صورة الفرد عن نفسه، في محاولة لعقلنة حياته الداخلية وعلاقته بنفسه وبالعالم، فهذا الوعي الجديد يسمح بترسيخ علاقة الأفراد بدورهم الاجتماعي الجديد، وبما يتلاءم مع حاجاتهم، عكس التعارض القائم حالياً. وهو ما يشد من تماسك المجتمع المطلوب بناؤه، وإلا ستكون التجارب التي تطرح نفسها كمعبرة عن التغيير في حالة انخفاض جاذبية، وتخبط في علاقتها مع القوى الشعبية التي ستكون في حالة انتظار، والتي هي منذ الآن في هذه الحالة من الإنتظار الذي لا يقبل التأجيل كونه عانى طويلاً من انغلاق الواقع أمامه، وخصوصاً عندما يفقد أوهامه التي اعتاش عليها خلال سيادة الثقافة الرأسمالية بأشكالها المختلفة.
الإرث الثوري مدخل النشاط القادم
وقد يسأل السائل محقاً: وكيف تبنى النظرة الجديدة للعالم وتجد تعبيراتها في البنية الفوقية من أخلاق وتعليم وثقافة وفن وإلخ... ولا تزال البنية التحتية رأسمالية حتى الصميم؟
نقول إنّ ما نرمي إليه لا يتعارض مع طبيعة العلاقة الموضوعية بين البنيتين التحتية والفوقية، فلما كانت البنية الفوقية نتاجاً وانعكاساً للتحتية، فإنّها انعكاس «في نهاية المطاف»، كما أكّد إنجلز في رسائله الأخيرة في المادية التاريخية، أي أنّ البنية الفوقية نشطة ومتحركة وليست نسخة كربونية عن البنية التحتية، وانطلاقاً من ذلك فإنّ ما نركز عليه هو وجوب تأسيس مداخل الرؤية الجديدة إلى العالم، ليس استناداً إلى تعفن الرأسمالية وتفسخها فحسب، بل واستناداً إلى تجربة ضخمة هي تجربة الاتحاد السوفييتي، تجربة قطعت شوطاً، نختلف أو نتفق على مداه، في بناء الاشتراكية، ولكنّه شوط مهم في إطار إبراز جديد إلى الوجود في إطار البنية التحتية، ما يسمح بالتالي برفع ذلك الجديد وترجمته ضمن البنية الفوقية.
من ثقافة الاستهلاك
إلى الهوية الوطنية
هذه المهام لا تواجه قوى التغيير الثوري من أحزاب ثورية فحسب، بل هي أيضاً مطروحة على المجتمعات التي تشهد مرحلة مواجهة الامبريالية، والتي لا يمكن لها أن تعيش ثقافياً في ظل ثقافة الاستهلاك بينما هي وظيفياً تواجه (وستواجه بوضوح أكبر قريباً) أدوات الرأسمالية وانعكاساتها، كونها في حالة من تعزيز الصمود والهوية الوطنية (التي هي بالضرورة مراحل انتقال نحو نماذج اقتصادية اشتراكية) من أجل مشروع النهوض بالمجتمع والدولة في مرحلة تراجع الامبريالية، وبالتالي هي بحاجة إلى نماذج ثقافية واجتماعية متناقضة مع تلك التي شهدتها هذه المجتمعات التي نحت في جانبها الاجتماعي عامة نحو الليبرالية، وستعاني حالة من انعدام التوازن ما بين علاقة الفردي بالاجتماعي، حيث لن يكفي شعار نهوض المجتمع دون تلمس القوى الاجتماعية المعنى المباشر لذلك على مستوى حياتها ومبادرتها وموقفها من ذاتها ومن العالم، حيث ستكون إما الثقافة الرأسمالية هي التي تحرك الأفراد في علاقتهم بالدولة والمجتمع، وإما ثقافة الإنتاج والتطور الواعي للقوى الاجتماعية مرتبطاً بها مختلف أشكال الحياة التي يجب أن تقاتل من أجلها في مرحلة تراجع نمو وأشكال الاستهلاك القائمة في تلك الدول. 
وإن كانت هذه المهام غير مطروحة بالشكل السياسي المباشر الآن، ولكن كون المجتمع في حالة الحشد لتوحيد الجهود بمواجهة قوى الاستغلال والفساد والرجعية والإرهاب يجب أن يكون بكامل طاقته في هذا الجانب، وأن ينتمي بكل تناقضاته إلى الوعي الذي يلامس واقعه وحاجاته ومشروع التغيير الشامل، وهذا ليس بجديد، بل من وحي تراث اللينينية نفسه حول العلاقة بالقوى المتضررة، هذه القوى التي تعيش حالة شديدة التعقيد في نمط حياتها، لا تتبسط في حلول عامة وموروثة من التجارب السابقة.