كثير من الشمبانيا لكثير من الرعب!

كثير من الشمبانيا لكثير من الرعب!

علاقة الإرهاب بالإعلام مُركبّة. بل الحقيقة أن الكثير من علماء الاتصال يؤكدون أن «الميديا» تشكل جزءاً بنيوياً من وجود الإرهاب كظاهرة. الإرهاب كما يقولون، يستهدف أولاً وأخيراً أولئك الآمنين الذين يشاهدون أعمال القتل والذبح من غرف معيشتهم، ولا يستهدف حقاً من تم احتجازهم، إغراقهم، إحراقهم. أو إطلاق النار عشوائياً عليهم.

العلاقة المتينة بين الإرهاب ووسائل الإعلام، لم تحل دون اشتقاق «إعلام إرهابي» متميّز، له لغته وهويته البصرية وموضوعاته، وهو ما بات يسمى بالإعلام الجهادي. لكن ذلك ربما، ونظراً لمباشرته، يبقى أقل خطراً من «المكاسب المجانية» التي تقدمها في العمق وسائل الإعلام للإرهاب، في الوقت الذي تتظاهر بأنها تدينه وتحاربه. هذا ما أكدته متابعة التغطية المُكثّفة لهجمات باريس طوال الأيام الماضية، باعتبارها تشكل نموذجاً يستحق الدراسة، لجمعه بين أدوات الإعلام الحربي والبروباغندا الدعائية.
الحرب على الشامبانيا
من حيث البنية والضخامة، استهدفت الهجمات السبّع تكريس الشعور بحجم الاختراق، وزعزعة مشاعر الأمن لدى الفرنسيين والغرب عموماً، وربما إلى فترات طويلة قادمة. ومن جانب آخر، كان للأهداف التي تم اختيارها دلالات رمزية أيضاً: المسرح، والملعب، والمطعم.. أي المنابر الثقافية والاجتماعية التي تشكل عصب الحياة في باريس. بحيث يمكن القول إن استهدافها يعني استهداف المبادئ الفرنسية.. أو على الأقل تلك هي الرسالة التي أراد مخططو الهجمات إيصالها وتكريسها. فالحرب اليوم «حرب إيديولوجيات»، و«صراع حضارات». هي حربٌ بين «الكراهية والحب». تلك كانت إحدى المقولات التي حاولت وسائل الإعلام تكريسها بشتى الطرق. على سبيل المثال اهتمت صحف «نيويورك تايمز» وقناة «فايس» برسالة كتبها بالفرنسية زوج إحدى الضحايا في مسرح الباتاكلان، وتوجه بها إلى داعش. في الرسالة المنشورة بتاريخ (18-11) ينعت الزوج منفذي الهجمات بـ «الأرواح الميّتة» ويؤكد بأن داعش التي قتلت «حب حياته» لن تنجح في دفعه نحو الكراهية. ويقول: «نحن اثنان فقط، أنا وابني، لكننا أقوى من جميع جيوش العالم». وفي السياق ذاته، رأت صحيفة شارلي إيبدو، في رد فعلها الأول على هجمات باريس، أن مقاتلي داعش يمتلكون الأسلحة، فيما يمتلك الفرنسيون الشامبانيا. تم ارفاق تلك المقولة برسم ساخر لرجلٍ يحمل كأس شامبانيا، أصابته الطلقات من عدة مواضع. لكن وبدلاً من الدماء، تدفق من جسده المشروب الكحولي الذي يرمز للاحتفالات. إذاً هي حربٌ على الشمبانيا والنبيذ الفرنسي، والشموع والأزهار المنمقة، حربٌ بين الجمال والقبح. 
وجهاً لوجه مع الإرهاب..
لم تنجح الـ«ماس ميديا» حتى اليوم وبالرغم من التطورات التي لحقت بها، في أن تكون بديلاً عن الاتصال الشخصي أو ما يسمى «الاتصال وجهاً لوجه». الآن وتحديداً بعد أحداث باريس الأخيرة، التي راح ضحيّتها ما يقارب 129 شخصاً. يمكن افتراض أن الإرهاب اليوم لم يعد يكتفي بالرسائل الإعلامية التي داوم على بثها طوال السنوات العشر الماضية، عبر قنوات الإعلام الجماهيري والإلكتروني. فهو اليوم يحاول أن يدعّمها باتصال من نوع شخصي ومباشر مع المجتمع الغربي.
في السابق كان يكفي الإرهاب، تنفيّذ عمليات على نطاق ضيّق، ثم الترويج لها إعلامياً وتضخيمها، لتحقيق الأغراض السياسية المطلوبة. كان يكفي (11 سبتمبر واحد) بالنسبة للولايات المتحدة كي تعلن حرباً على الإرهاب، تمتد عشرات السنين، بناءً على حدثٍ محدد واحد.. وظّفه الإعلام الأمريكي والعالمي أحسن توظيف. لكن وكما يبدو، حتى الأحداث الإرهابية لديها «مدة صلاحية محدودة»، فإحياء 11 سبتمبر إعلامياً لم يعد يجلب ثماره. كان لا بد من أحداثٍ إرهابية جديدة. تهزّ المجتمع الغربي في العمق كي يصدّق بأن خطر الإرهاب «لم يعد مزحة».
انتقل الإرهاب في ترويجه لنفسه اليوم إلى ما يشبه «فنون الأداء الفرجوية» أو «المسرح التفاعلي».  فالهجمّات السبع التي نُفذت في أماكن متفرقة أمّنت جمهوراً عريضاً من الشهود العيان والضحايا المباشرين وغير المباشرين. هؤلاء غّذوا قنوات الإعلام بحكايا إنسانية وعاطفية لم تنضب حتى هذه اللحظة.
حصاد غربي لزراعة الخوف
تخدم وسائل الإعلام الإرهاب، والقوى السياسية التي أوجدته، حينما تصور الصراع معه على أنه صراع حضارات وكراهية. لا مصالح سياسية أو اقتصادية هنا. لا وجود لأنظمة تحاول تنفيس أزماتها عبر تغذية الفاشية وإشعال المزيد من المعارك. ولا مسؤولية للغرب في خلق الإرهاب كظاهرة.
يعلم المتابع لكبرى منابر الإعلام الغربي في الأشهر الماضية، أن الكثير من المقولات التي روّجت لها تغطية أخبار تنظيم داعش، هدفت أولاً وأخيراً لتكريس الخوف من الإرهاب، باعتباره خطراً مباشراً وحقيقياً يستهدف المجتمع الغربي. واليوم، كل ما في تغطية أحداث باريس يقول بأن «الإرهاب أصبح داخل البيت الأوروبي» ويجب التصدي له بالطريقة التي تختارها الحكومات الغربية. سيادة الخوف كانت خطوة ضرورية لضمان إذعان الرأي العام الغربي لسياسات حكوماته حول التدخل في سورية والمنطقة. لكنه إذعان مؤقت لحين انتهاء مفعول رسائل التخويف.