إلى أين نحن ماضون؟

إلى أين نحن ماضون؟

أتساءل هل يمكن أن أكون -دون أي تناقض- عربياً، ومسلماً، ونباتياً، وصائماً، وباحثاً، ومؤرخاً، ومُحباً للروايات، ومن مريدي فيلسوف المعرة، ومناضلاً من أجل جياع الأرض، ومؤيداً لقول فولتير (قد أختلف معك في الرأي، ولكني على استعداد لأدافع حتى الموت عن حقك في التعبير عن رأيك)، ومناصراً لحق المرأة في العدالة الاجتماعية، و من أتباع ليف تولستوي، وأن أكون من أولئك الناس الشاسعين الذين يمدون ظلالهم على آفاق شاسعة، وأن أكون إنساناً على وجه الدقة، وأكون مسؤولاً، وأن أعرف الخجل أمام بؤس لا يبدو أنه يتعلق بي، وأن أزهو بنصر كلّل هامات الرفاق، وأن أُحس وأنا أضع حجري  أنني أًعمّر العالم.

لا يمكن أن أتصور أن هناك من يظن أنني أُعاني من نقص في عقلي أو ثقافتي لمجرد أنني مسلم،  فأنا أعرف غنى ثقافتي وتاريخي وتراثي. وهذا الإحساس  بالامتلاء، والوقوف على أرض ثقافية صلبة أنا مدين به لتراث فكري  حضاري  إنساني عميق و عريق. وأنا لا أعتبر  أن هناك عالماً عربياً وعالماً غربياً، أنتمي إلى مجتمع عربي ضمن العالم الأوسع، وهذه الكرة الأرضية ليست ملكاً للغرب، إذ أن لي الحق فيها، ولي الحق في ثقافة هذا العصر ، لأنني أمتلك حضارة ويمكنني أن أساهم بها على الصعيد العالمي.
2
استعرتُ في  هذه المحاججة  أسلوب الكاتب الهندي أمارتيا صن الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998 لمساهمته في اقتصاديات الرفاهية وعمله على صعيد نظرية التنمية  البشرية ووسائل محاربة الفقر، والحرية السياسية.حيث يؤكد في كتابه (الهوية والعنف) أن هذه النشاطات الجمعية التي ينتمي إليها أحدنا تكوّن شخصيته  وترسم هويته، وفي الوقت نفسه  ليس فيها ما يمكن أن يُعتبر الهوية الوحيدة.حيث علينا أن نقنع أنفسنا أولاً، ومن ثم الآخر الذي نتقاسم معه أسباب العيش، أن لنا انتماءات متعددة ، و هذه الانتماءات تتفاعل فيما بينها بطرق  مختلفة. وقد جاء في الأثر أن رجلاً سلَّم على أبي العيناء، من أهل القرن الرابع الهجري، وكان أعمى، فسأله: من الرجل؟ قال: من بني آدم. فقال أبو العيناء: مرحباً بك، والله ما كنتُ أظن هذا النسل إلا قد انقطع. هل الانتماء إلى أبينا آدم في عصرنا الحديث  طريق نجاة مأمون؟   وبالتالي فإن هذا الانتماء يواجه تحديات وحشية عندما نوحّدالتنوع في نظام تصنيف مهيمن مزعوم يعتمد على الدين، أو الطائفة، أو الثقافة، أو الحزب، أو الأمة، أو الحضارة. ففي حياتنا اليومية العادية نرى أنفسنا كأعضاء لمجموعات متنوعة ننتمي إليها جميعاً. وحقيقة أن يكون المرء علمانياً لا يتعارض مع كونه مؤمناً يُصلي في الكنيسة كل أحد، وذلك لا يتعارض مع كونه ينشط في حزب شيوعي ولا يمنعه من أن يكون صديقاً لعدد كبير من المسلمين يدخل بيوتهم ويأكل من خبزهم. أي شخص هو عضو في جماعات مختلفة متعددة – ومن دون أن يكون ذلك تناقضاً بأي شكل من الأشكال- وكل من هذه الهويات الجمعية التي ينتمي إليها جميعاً هذا الفرد تعطيه هوية اجتماعية  تجعله شخصاً مهماً بالفعل.   
3
إن العالم المقسم حسب الهوية أكثر إثارة للشقاق والنزاع بكثير من التصنيفات الجمعية والمتنوعة التي تُشكل العالم الذي نعيش فيه. إن الأمل في أن يسود الانسجام عالمنا المعاصر يكمن إلى حد كبير في فهم أوضح لتعددية الهوية الإنسانية وفي تقدير الحقيقة أن البشر يستطيعون أن يصلوا إلى بعضهم وأن يعملوا ضد فصل حاد بينهم على أساس خط واحد متصلب من التقسيم الذي لا يمكن عبوره. لنأخذ على سبيل المثال  أهل الصين تجدهم يعتنقون إلى جانب الأديان الرئيسية في تاريخ الصين -إلى جانب التاوية المحلية- هناك البوذية والإسلام والمسيحية التي دخلت الصين من خارجها. مع أن الكونفوشيوسية احتلت مكانة حاكمة وسميت بالدين الكونفوشيوسي، فإنها ليست ديناً حقيقياً. الصين تختلف عن  معظم دول العالم في موقفها تجاه  الأديان ففي الغرب المسيحي والعالم الإسلامي كان وما زال تقسيم المذاهب الدينية صارماً حيث لا يمكن للشخص الواحد أن يؤمن بدينين معاً بل لا يمكنه أن يشترك في طائفتين لدين واحد. في الصين يمكن أن تتعايش الأديان ويستفيد بعضها من بعض. فقد شهدت  البوذية و التاوية تطوراً كبيراً في الصين  وسميتا مع الكونفوشيوسية  الأديان الثلاثة الكبرى. وأخذ كل منها بعض أفكار الدينين الآخرين فأصبح الجمع بين الأديان الثلاثة اتجاهاً تاريخياً ضرورياً، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكن أن تتعايش هذه الأديان في قلب الشخص الواحد، فيمكن أن يكون المرء بوذياً و تاوياً معاً ويكون تابعاً للكونفوشيوسية أيضاً. و نادراً ما نجد في مكان آخر في العالم مثل هذه الروح  المتسامحة في استيعاب الأديان.