الجلبي.. «بضاعة أمريكية» حياً وميتاً!

الجلبي.. «بضاعة أمريكية» حياً وميتاً!

بمزيدٍ من الرضا والتسليم، نعت وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى، عضو مجلس النواب، ورئيس حزب المؤتمر الوطني العراقي أحمد الجلبي. الصديق القديم للولايات المتحدة الأمريكية، الذي توفي عن عمرٍ يناهز 71، في ظروف مشبوهة وإدعاءات أطراف عراقية بأنه مات مسموماً.

تقلد رجل الأعمال السابق والسياسي عدداً من المناصب، منها عضو مجلس الحكم ونائب رئيس الوزراء ورئيس هيئة «اجتثاث البعث» التي شكلها الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر عام 2003.

«السياسي المتلّون وصاحب الكاريزما»، «السياسي العراقي المثير للجدل»، «الداعي الصاخب والمتحمس» و«صاحب الدور المفتاحي» في الغزو الأمريكي للعراق. تلك كانت بعض الأوصاف التي اختارتها شبكة «سي أن أن» وصحيفة «النيويورك تايمز» ومحطة «فوكس نيوز» لرثاء من كان يوماً «مصدراً موثوقاً للمعلومات». 

يستحضر موت الجلبي اليوم الكثير من الذكريات السيئة عن المجريات التي مهدّت للحرب على العراق ورافقتها. فالمعارض الشرس لصدّام حسين والصديق الوفي لإدارة جورج بوش، هو الذي زوّد الولايات المتحدة الأمريكية بما اعتبر في ذلك الحين «أدلة» حول وجود أسلحة تدمير شامل في العراق. ما منح أمريكا الذريعة الأبرز لشن حربها على العراق عام 2003. 

تعيد تلك الحقبة إلى الأذهان الدور الوسيط والخطير الذي لعبته وسائل الإعلام في قرع طبول الحرب، وشرعنتها أمام الرأي العام والعالمي. وفي هذا السياق يمكن استذكار «جوديث ميلير» مراسلة «نيويورك تايمز» التي اعتمدت على ادعاءات الجلبي ومنظمته في «تقاريرٍ حصرية» حول أسلحة الدمار الشامل التي مهدت لحرب العراق. 

في رثائه، ابتدأت «سي أن أن» بعرض لقطات أرشيفية من الأيام الأولى لغزو العراق وسقوط بغداد، وألحقتها بمقتطفات من لقاءات تلفزيونية مع أحمد الجلبي تعود إلى نيسان من عام 2003، يؤكد فيها على وجود أسلحة الدمار الشامل، كي يسمعه العالم بأكمله. فأمريكا لم تكن لتستطيع شن حربها دون «رجلٍ عراقي من قلب الحدث» يخلي عنها مسؤوليتها ويمدها بالذرائع اللازمة للحرب. 

فيما اختارت مجلة «تايم» (3-11) عرض مقتطفات من لقاء سابق كان قد أجراه مراسل المجلة «براين بينيت» مع الجلبي عام 2006 أثناء زيارته إلى الولايات المتحدة، حيث مال المعارض العراقي حينها إلى رواية الأحداث بصورةٍ مختلفة، محاولاً التقليل من الدور الذي لعبه في تشجيع الغزو الأمريكي للعراق. في اللقاء، يعتبر الجلبي أنه من الخرافة اتهام حزبه بامتلاك مصادر معلومات تفتقد إلى المبدئية. «من واجبنا التحقق من أن هؤلاء الناس هم من يدّعون حقاً «، لكنه يستدرك مضيفاً بأنه كان على وكالات الاستخبارات القيام بتحقيق وتدقيق جدي. في ذات المقابلة مع مجلة «تايم»، يصف الجلبي المراسلة جوديث ميلير بـ «كبش فداء الميديا»، على اعتبار أن هناك الكثير من وسائل الإعلام والصحف التي تحدثت عن وجود أسلحة التدمير الشامل غيرها في ذلك الحين.

في المقابل تتخفى صحيفة «نيويورك تايمز» وراء لغةٍ تدعي الحيادية، إزاء موت من كان في أحد الأيام «مصدر معلوماتها المفضّل». تستهل تقريرها بسرد خلفية معلوماتية عن الجلبي، واستعراض تاريخ علاقته بالولايات المتحدة وتحديداً إدارة جورج بوش. مشيرةً مثلاً إلى أن مجموعته المسماة «المؤتمر الوطني العراقي» نالت ما يقارب 100 مليون دولار من وكالة الاستخبارات الأمريكية وغيرها من الوكالات، من عام 1992 وحتى 2003.

تميل «نيويورك تايمز» إلى تكريس فكرة أن الجلبي «غررّ» بالولايات المتحدة الأمريكية عبر معلوماته الخاطئة. وبذلك تخلي الصحيفة مسؤوليتها التي لا تغتفر عن تأجيج النفوس إبان حرب العراق، والترويج لإدعاءات الجلبي. فهي لا تنفك تذكر بكم المعلومات الخاطئة التي قدمها، كما لو أنها تقول أنها كانت، مع الولايات المتحدة الأمريكية، ضحيّة.

تكمل الصحيفة حديثها عن خروج الجلبي من تحت الكنف الأمريكي شيئاً فشيئاً بعد قيامه بأفعال «غيّر مرحب بها» أدت إلى تدهور علاقته بوكالة الاستخبارات الأمريكية.

في المقابل، تختار «النيويوركر» (3-11) زاوية أخرى لمقاربة الموضوع، في تقرير مطول كتبه «دكستير فلكنس»، يسرد فيه تفاصيل علاقته الشخصية بجلبي «الدمث والذكي المحب لموسيقا باخ». يستذكر فلكنس اللقاءات الصحيفية التي أجراها معه طوال السنوات الأربع التي تلت حرب العراق، حينما كان مراسلاً للتايم. ليصل في النهاية إلى نتيجة مفادها أن إدارة بوش كانت ستشن حربها على العرق مع مساعدة الجلبي أو دونها. فهو في المحصلة «مجرد مواطن عراقي». 

وبذلك يمكن القول أن وسائل الإعلام الأمريكية على اختلاف توجهاتها الظاهرية إزاء حرب العراق، اتفقت على استغلال موت الجلبي اليوم لتبيّض سجلها الدموي في العراق. فهو الذي «أغواها» و«ضغط عليها»، وهي عن «حسن نية» صدقته، وقادت حرباً لتحريره هو وأبناء شعبه. لكنه فيما بعد خيّب أملها بتوجهاته وخياراته السياسية التي أفسدت «ديمقراطية أمريكا» بنزاعات طائفية دمرت البلاد.

يشكل موت الجلبي اليوم، واسترجاع دوره في غزو العراق، تكثيفاً لدور وسائل الإعلام في تعبيرها عن المصالح السياسية والاقتصادية لمالكيها. هناك اليوم العشرات من أمثال الجلبي، الذين يظهرون على شاشات التلفزيون والمحطات المختلفة لينشروا معلومات مُضللة ومُلفقة تمهّد الطريق أمام سياسات أمريكا في ليبيا واليمن وسوريا. مهمّة هؤلاء «لحظيّة ومحددة»، واللحظية هذه تتضمن إمكانية الاستفادة من موتهم ليتم استهلاكهم حتى النهاية كأي بضاعة أخرى، ولا يهم إن ادعت الولايات المتحدة فيما بعد أنها زودت بمعلومات كاذبة وخضعت للتضليل.