عبد المسيح (قام من جديد)
نور دياب نور دياب

عبد المسيح (قام من جديد)

هناك في الأقاصي البعيدة تولد الحكايات، في الأرض المنسية، في السهول التي لم تعرف من الأحياء إلا القليل عندما يذكرها النسيان والإنسان، تتمنى الزهور البرية أن تبقى برعاية الله فقط، تتمنى أن لا تراها عين بشرية، فرحمة الله أكبر من رحمة الإنسان... 

هناك حيث الأرض والزهور هي الشاهد الوحيد على البشر، تراقبهم بصمت، تتفاعل معهم، تحاول أن تفهم ما يميزهم عنها، وتكتب تاريخأ مفقوداً لأشخاص لن يذكرهم التاريخ يوماً، تكتب حكايات أجيال مرت عليها هي وحدها، بما فيها من قساوة وجوع وبرد وحرب، بما فيها من خير وعطاء ودفء وسلم..

الأرض والأزهار..  تعرفه!

عبد المسيح ولد في قرية تل خريطة، إحدى قرى الجزيرة السورية، ابن عائلة بسيطة، كان هادئاً رزيناً جاداً، اضطر لإعادة البكالوريا ثلاث سنوات كي يدخل كلية الطب بفارق علامة واحدة أو علامتين. في السنة الثالثة حمل الخبر السعيد لوالده الذي كان يسقي أرضه بقدميه العاريتين، قال «وأخيراً...». ميزت الأرض دموع والده المالحة عن المياه التي كانت تشربها وسمعته وهو يقول في سره «عسى ألا يضيع جهداً في هذه الأرض».

درس عبد المسيح الطب في جامعة حلب، وتخرج منها بعد عناء طويل. عانى كغيره من طلبة تلك الجامعة، ابتداء من الانتقال لمحافظة بعيدة، واختلاطه بالقادمين من كل أنحاء سورية والتعامل مع طبائعهم وعاداتهم المختلفة، هؤلاء الآتين من أجل العلم وهاجس تأمين القوت في قادم الأيام، وليس انتهاء بالكم الهائل من المعلومات المطلوب للدراسة.

عاد عبد المسيح لأهله. والأهم لأرضه التي كان يحدثها عن حكاياه قبل أي كان، لأنها كانت مثله تنصت بصمت وتفرح له دون دموع وتعده بالخير والعطاء.. وتعلمه وتربيه.

عاد ليرد الجميل، وعمل جاهداً كي يترجم عرق من تعبوا إلى دواء، تكفيه ابتسامة الشيوخ ودعوات الأمهات والراحة والرضا الذي يمنحه المسيح للمرضى. لم يكن له أعداء.. لم يبخل على أحد بشيء؛ لم يؤذ نملة- على حد تعبير كل من عرفه..

ثم جاء «داعش»!

كان جزءاً لا يتجزأ من الواقع والأرض الذي دخلت عليه ما سمي «داعش».

شعرت الأرض بأن هناك كائناً غريباً على وجهها، وأحست بثقل أقدامه، لم تكن أقداماً مألوفة؛ فالأرض لم تسمع من قبل أصواتاً غريبة كالتي سمعتها  لتلك القذائف والرشاشات ولأزيز الدبابات ودوي تلك الانفجارات. ولم تسمع لغات مختلفة وأحاديث  غريبة واتهامات رديئة. بل سمعت أصواتاً جديدة، صرخات لنساء ملؤها النحيب والبكاء على كل مفقود ومخطوف وشهيد.

كان كل شيء غريباً، حتى أن الأرض تصورت أنها تسطيع أن تكون جزءاً من هذه الغرابة لتخرج من صمتها وتصرخ الرحمة.. الرحمة!

اختطف عبد المسيح على يد داعش في 23/2/2015 هو وعائلته وأبناء وبنات قريته، وبعضاً من أفراد قرى الخابور الأخرى المجاورة من بينهم نساء وشيوخ وأطفال. 

استيقظت الأرض في صباح عيد الأضحى الماضي مبتهجةً، علها تعيد بعضاً من الفرح الذي يصاحب الأعياد عادة، فكانت شاهدة على المشهد الذي لن تنساه أبداً حيث اقتاد مسلحون من تنظيم داعش ستة أشخاص من المختطفين إلى تلك السهول، كان عبد المسيح بينهم، طلبوا إليهم أن يجثوا وأن يتلوا اسماءهم ومواليدهم، اعتقد عبد المسيح لوهلة بأنه يمثل مسرحية، مرّ شريط حياته أمام عينيه وهو جاث على تلك السهول، سخر منهم في سره فهو يعرف الله أكثر منهم.. أطلقوا رصاصة على رأسه، أردته قتيلاً هو وآخرين، قاموا بتصوير جريمتهم ونشرها على «فايس بوك»، متباهين بإيمانهم الزائف.

تذكرت الأرض مشهداً مماثلا قبل قرابة 2000 عام وعلى أرض قريبة، أرض فلسطين المقدسة حين صلب المسيح على يد اليهود. تجدد ألمها مرة أخرى وصرخت «قم يا عبد المسيح ... قم يا عبد المسيح قم» 

لكن وحده المسيح قام من جديد.