خلف الرازي.. جغرافيا عصية على الفهم
كنا يائسين، نريد إيجاد بيت للإيجار، وكما كانت أولويات أي طالب سوري في عام 2009، بدأنا نبحث عن منزل وسط العاصمة، بعد أن كنا نشكو من طول «الثلث ساعة» الذي يستغرقها الطريق من أحد ضواحي ريف دمشق إلى الحياة الصاخبة في قلب المدينة.
وهكذا أوصلتنا الأقدار إلى منطقة البساتين خلف مشفى الرازي، غرب أوتستراد المزة، أو ما يسمى باللهجة المحلية «قفا الرازي». هي تسمية تنطوي على قدر من السخرية، على اعتبار أن وجدود البساتين يسبق المشفى الشهير، لكن حسابات الغنى والفقر، الجدة والقدم، هي التي رتبت التسميات في المدينة بحيث أصبحت البساتين تتلو المستشفى وتتبعه.
خارج حدود الزمان والمكان!
للتعرف على بساتين الرازي كما كانت في عام 2009، لابد أن يستعير القارئ عيون طالبة خجولة في قسم الصحافة، تريد بيتاً قريباً من كلية الآداب ومسارح المدينة ومقاهيها. تبرع أحد الأصدقاء بأخذنا أنا وإحدى قريباتي في رحلة للبحث عن منزل في تلك المنطقة. كنت متحمسة للفكرة نظراً لقصر المسافة التي تفصل بين البساتين وقلب المدينة، بحيث قررت مسبقاً أن أُظهر مزيداً من التساهل في معايير السكن مقابل الموقع المتميز، لكن وما إن وطأت أقدامنا المنطقة حتى اختلف الشعور تماماً. ضاعت للحظات حدود المكان والزمان. قبل دقائق فقط كنا في قلب العاصمة الصاخبة، على الأوتستراد المزدحم بإشارات المرور والسيارات الفارهة. لكننا الآن نتجول في مكان مهجور، يبدو مقتطعاً من أحد الأرياف القصية ومحشوراً عن طريق الخطأ في خريطة المدينة. كانت منطقة عشوائيات نموذجية، تغطيها طبقة من الغبار الكلسي الأبيض، كل شيء قديم. والبيوت تزدحم دونما انتظام وتتسلق بعضها البعض... هناك أطفال يلهون في الأزقة، بعضهم حفاة وآخرون مشعثوا الشعر، يركضون وراء كرات مفرغة من الهواء.
مشهد «سريالي»!
أتذكر تماماً كيف كنا نتبع خطى الدلّال الذي يعدنا ببيوت مثالية للسكن. كنا ندخل من أبواب ونخرج من أخرى، نتطفل على المكان بنظرات مستغربة تتفحص كل شيء. المنازل المعروضة للآجار معتمة ومتسخة، تفصل بينها أزقة ضيقة، تطفو فيها مياه الصرف الصحي.. حينما أفكر بذلك المكان اليوم، أتذكر مشهداً محدداً، نحن نصعد أدراجاً، وينفتح الباب على شقة متهلهلة. تصدمنا رائحة البصل المقلي، نرى عدداً لا منتهياً من الأحذية المخلوعة أمام باب الشقة، ونلحظ في زاوية الغرفة طنجرة ألمنيوم على غاز صغير، ماتزال آثار «المجدّرة» عالقة عليها، وفي الداخل تقابلنا عيون لاهثة لشبان شبعانين، فنغلق الباب. كانت تلك الشقق في ذلك الحين تؤجر إلى لأعداد كبيرة من الطلبة الذين يأتون في فترة الامتحانات من أرياف أو محافظات بعيدة عن دمشق. يستأجرون شقة مشتركة لعدد محدد من الأيام بأسعار مرتفعة...
أتذكر تماماً سريالية المشهد، حينما شاهدت من أحد شوارع المنطقة، مبنى كلية الطب على أوتستراد المزة. لم أصدق في ذلك الحين كيف يمكن لمكان أن يبدو قريباً وبعيداً في الوقت نفسه. تركنا بساتين الرازي دون أن ننظر للخلف.
خطأ في العنوان!
لا يختار أحدٌ بمحض إرادته، «حياة العشوائيات»، فهو لم يخيّر بينها وبين الحياة في سكن منتظم يحقق شروط حياة إنسانية، فاختار الأول. لم تكن الحياة كما تجري في بساتين الرازي رغبة أصحابها، مع ذلك كان لهم سقوف تأويهم، ومنازل يكبر فيها أطفالهم، وهم اليوم يُحرمون حتى من ذلك.
كانت الحكاية في مكان آخر قد تنتهي عند بيت لم نستأجره، لكن حكايات بلادنا تبدأ من أماكن تشبه إلى حد كبير بساتين الرازي. اليوم وفي عام 2015، وبعد كل ما جرى في البلاد، تبدأ بلدية دمشق بإحداث فجوات في الجدران المتعبة تمهيداً لإزالة المنطقة. يُهدد السكان بأن يُتركوا في الفلاء ودون تعويض يؤمن لهم بديلاً للسكن، وهم الذين لم يملكوا سوى جغرافيا عصية على الفهم. لسبب مجهول، وفي بلد أصبحت فيها مساحات شاسعة خراباً، قررت عمليات إعادة الإعمار أن تبدأ من تلك الفسحة بالذات! ستشيّد مجمعات تتوافق وذلك القسم من المدينة، وسيكون للفاسدين الحصة الأكبر فيها. لن يذهب أحدٌ إلى هناك بحثاً عن غرفة للآجار، فالفقراء لن يحتملوا تكاليفها. لن يذهب أحد إلى «قفا الرازي»، لأن العنوان خطأ، هي مدينة الأقحوان الآن. ذلك الاختلاف الطفيف في الاسم يختصر إلى حد كبير تناقضات البلاد التي تنوء تحت ثقل الحرب، دون أن يتوقف فاسدوها لحظة واحدة عن رسم مخططات وطن لا مكان للفقراء فيه. هو إعمار من نوع مختلف، يُبنى فوق أحلام الناس وممتلكاتهم.