اهتمام مفاجئ..!
لا ينفصل الثقافي عن السياسي، رغم الجدل القديم - الجديد كل في هذا الشأن، واذا كان النشاط السياسي أداة مباشرة عن المصالح الاجتماعية للطبقات المتصارعة، فإن الثقافة والرموز الثقافية هي إحدى الأدوات التي يتم الاتكاء عليها في تسويق مصالح هذه الطبقة أو تلك، والاستناد عليها في تكوين الوعي الاجتماعي، ولا تتورع القوى السياسية المفلسة الفاشية مثلاً عن سرقة الرموز الثقافية لشعب من الشعوب، في الترويج لمشروعها السياسي، كون رموزها التاريخية رموزاً منبوذة ارتبطت أسماؤها بالحرب والدم.
تقيم سلطات كييف بين فترة وأخرى احتفالات ومهرجانات لتكريم الشاعر الأوكراني تاراس شيفتشينكو، وتدشن التماثيل، وتملأ الصحف والتلفاز بأخبار وتقارير عن حياته، وتلف التماثيل بالعلم القومي الأوكراني والرايات الفاشية. من هو تاراس شيفتشينكو في الحقيقة؟ وما سرّ هذا الاهتمام المفاجئ الذي تبديه سلطات كييف بهذا الشاعر الذي توفي عام 1861؟
ينحدر شيفتشينكو «1814-1861» من عائلة عبيد في قرية مورينستي قرب كييف، وقد كان قناً في بداية حياته عند الإقطاعي إنغلهاردت وعاش حياة شقاء أثناء القنانة.
شراء الحرية!
لاحظ الإقطاعي موهبته في الرسم، فقرر أن يجعل منه رسام بلاطه، فأتى به إلى بطرسبورغ، ليتلقى الدروس عند الرسام شيرياييف، وهناك تعرف على فناني وشعراء عصره، وقرر أصدقاؤه مساعدته على دخول أكاديمية الفنون الجميلة، ولكن ذلك كان ممنوعاً على الأقنان، وكان عليه أولاً أن يحصل على حريته من الإقطاعي، فجمع أصدقاؤه بعض المال، وقام الرسام برولوف برسم لوحة للشاعر جوكوفسكي، وعينت الصورة كجائزة في اليانصيب، وبهذه الأموال أصبح شيفتشينكو حراً.
بعد أن نال شيفتشينكو حريته، أصبح من أبرز المناضلين ضد القنانة والقيصرية في عصره، ويعتبر من أعظم الشعراء في أوكرانيا، ومن مؤسسي الأدب الأوكراني. بدأ بكتابة الشعر، وفي عام 1840 أصدر كتاب «الكبزار» وهو كتابه الأول في الشعر، وانتشر في مكتبات بطرسبورغ.
وحقق كتابه هذا مكانة متميزة في التراث الأوكراني، وتتضمن المجموعة ثماني قصائد، وقصص شعرية وهي: (الإهداء – وطني – كاترينا – شجر الحور – إلى أوسنوفيانينكا - ليلة تاراس – إيفان بيدكوفا – دومكا)، وجعله هذا الكتاب من أوائل المحدثين، ومؤلفي الشعر الأوكراني الجديد.
عودة البصر!
بدأ شيفتشينكو بتطوير الغناء الوجداني المعتمد على القيثارة، والقصائد الوجدانية الملحمية ذات المحتوى التاريخي.
وكان الوطن محور قصائده، وظهر ذلك في قصيدته «المهاجمون» التي صدرت في كتاب خاص عام 1841، ويروي فيه قصة ثورة الفلاحين الأوكرانيين على الاحتلال البولوني.
وقد أكد شيفتشينكو في إحدى هذه القصائد أنه استعاد بصره، فالمعرفة الجديدة التي كونها عن بلده أوكرانيا، وعادات الإقطاعيين وأرباب العمل، قد أتاحت له أن يتخلص من ولعه الصبياني برومانطيقية الماضي، فالعاطفة والانفعال النموذجيان في شعره، اغتنيا بأفكار جديدة تكونت لدى الشاعر عن النضال العام ضد النظام (الأوتوقراطي، الإقطاعي) وهذا ما ينعته شيفتشينكو بـ«عودة البصر» فاعتبر شاعر الثورة الفلاحية في حينها.
كان شيفتشينكو من الشخصيات الهامة، وأحد منظري ما سمي «الاشتراكية الفلاحية الطوباوية» في عصره، وقد اضطهدته القيصرية بسبب أفكاره ومواقفه، حيث ذاعت قصائده بين الفلاحين، وكان يدعوهم فيها إلى الانتفاضة، وحمل الفؤوس والنضال للتحرر من قيود القنانة، وكان يردد «القيصرية هي سجن الشعوب».
توظيف ممنهج!
تجري محاولة حثيثة في الوقت الحالي لمصادرة الرموز الوطنية والذاكرة التاريخية للشعب الأوكراني، ووضعها في خدمة المآرب السياسية لدعاة الفاشية الجدد، في أوكرانيا وغيرها من الدول، بشتى السبل، إذ جرى لفّ تماثيل شيفتشينكو أثناء الأحداث التي شهدتها أوكرانيا، بأحد الأعلام «القومية الأوكرانية» التي تعود لتلك المرحلة، رغم نضال شيفتشينكو ضده لأنه يرمز إلى القنانة والإقطاعية التي عانى منها شخصياً، كما عانى منها شعبه، قبل أن تحطم الانتفاضة الفلاحية الكبيرة في روسيا القيصرية نظام القنانة عام 1861. والكثير من الممارسات الأخرى.