قبل الثلج الأحمر بتسع شتاءات!

قبل الثلج الأحمر بتسع شتاءات!

تؤكد جدتي دائماً، نقلاً عن جدي، بأنه ولد قبل سنة الثلج الأحمر بتسع شتاءات، أما هي فقد ولدت قبل سنة «طوشة عامودا» بعشرين شتاء!

عرف سكان سهول الجزيرة العليا، وبادية الجزيرة في سورية، كغيرهم من الشعوب، نمطاً فريداً من التأريخ، تحفظه الذاكرة الشعبية كالأمثال الشعبية والملاحم الغنائية وتميزوا بطريقتهم الخاصة في تأريخ الزمن وفقاً للحوادث التي جرت في السنة الفلانية.. الخ، وتمييزها عن غيرها، وكان نمط التفكير البسيط هذا انعكاساً للعلاقات الفلاحية والرعوية في حينه، واستمر هذا النوع من «التأريخ الزمني» الذي كان امتداداً لما كان سائداً في القرن التاسع عشر وما قبلها، حتى النصف الأول من القرن العشرين.


الذاكرة الشفوية عند الفلاحين والرعاة

تجاور في الجزيرة السورية، نمطان من العلاقات الاقتصادية الاجتماعية، في القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين، نمط حمل طابع الإقطاع العثماني، والنمط الرعوي ونصف الرعوي الذي يظهر فيه نمط الاقتصاد الطبيعي.
لم يختلف نمط التفكير كثيراً في شمال الجزيرة، عن جنوبها فقد كانت القبائل الرعوية ونصف الرعوية والفلاحون يشتركون في طريقة «التأريخ الزمني»، ويأخذون في ذلك اعتبارات تغير الظواهر (المناخية والبيئية والاقتصادية والحروب..) في تسمية السنوات التي غالباً ما تكون علامات فارقة، ونقاط علام لمعرفة الزمن، وقد استطاع بعض الباحثين جمع بعض من هذ التراث العائد للقرن العشرين.
يروي الباحث «محمد السموري» كيف كان سكان الجزيرة يعرفون الزمن، قائلاً: «ذرّاية قبل الفرمان التركي بخمس سنين، ومن ذراية إلى لوفة خمس عشرة سنة، ومن لوفة إلى موّاصة خمس سنين ،ومن موّاصة إلى السبع ثلجات ثلاث عشرة سنة، ومن السبع ثلجات إلى الوطنية ثلاث سنين»، ويبدو هذا الكلام عصياً على الفهم، ولكنه ليس كذلك لمن يعرف ماذا تعني هذه السنوات.


 من الذاكرة الشفهية

عرفت سنة 1909، في الذاكرة الفلاحية شمال الجزيرة السورية باسم سنة الثلج الأحمر«Sala berfa sor»، بسبب هطول ثلوج كثيفة وتهدم البيوت الطينية وامتزاجها بالتراب الأحمر. أما سنة 1910، فقد عرفت في جنوب الجزيرة باسم سنة «ذراية» بسبب هطول ثلوج كثيفة فشبهوا الثلج بالتبن المتناثر من البيدر، كما عرفت أيضاً بسنة «الدمام» أي أن الثلج قد غطى الأرض تماماً، وفي تعبير أهل الجزيرة (دمّ ) تعني طمر بالتراب. وقد جرفت التراب والبيوت، وهبت عواصف سوّت كل البيوت والخيم بالأرض.
وكانت سنة 1913، سنة «الجراد» فقد أتت أسراب الجراد على مواسم الفلاحين في قرى عامودا والدرباسية القديمة ونصيبين وسببت خراب الفلاحين. بينما عرفت سنة 1915، باسم سنة «الفرمان» وهي السنة التي ارتكبت فيها القوات العثمانية مجازر بشعة بحق الأرمن، وأثناء قيام العثمانيين بملاحقة الأرمن في الجزيرة قام الفلاحون والرعاة بحماية وإخفاء العديد من الأسر الهاربة من الموت.
عرفت سنة 1916 باسم سنة «الغلاء» و«السفر برلك»، فقد حل القحط جراء الجفاف وانحباس الأمطار، وسيق أبناء الفلاحين للخدمة في الجيش العثماني، أثناء الحرب العالمية الأولى، ولذلك عرفت باسم «السوقيات» في  جنوب الجزيرة. كما تعرف هذه السنة في ذاكرة أهالي عين عيسى وجبل عبد العزيز باسم سنة «الجيفة»  لكثرة مصادرة العسكر العثماني لمحاصيل الفلاحين، وتركهم للموت جوعاً.
أما سنة 1917 فعرفت بـ«الوسمية» أو سنة «الوسم» وهي سنة الأمطار الغزيرة التي هطلت مبكراً بعد عام من الجفاف والقحط. وعرفت عند الفلاحين باسم سنة المطر« Sala baranê» ،وقد وثقتها الذاكرة الشفهية في الجزيرة لأهميتها  الاقتصادية الاجتماعية في حياة الفلاحين والرعاة.
أما تحديد هذه السنين بتاريخها المتفق عليه، فإن (العوارف والحسّابة) يقومون، حسب معارفهم الخاصة، بتحديد التاريخ وحسابه كما يؤكد الباحث «السموري». وقد لجأوا إلى طرقهم الخاصة في التأريخ لتغطية حاجاتهم الملحة، وتعويض النقص والتقصير في التاريخ المكتوب. ولدراسة ظاهرة «التاريخ الشفهي للسنين» والتراث الشعبي لهذه المناطق أهمية خاصة علمياً وثقافياً.

 

مرحلة جديدة!

عرفت سنة 1923 باسم سنة بياندور «Sala beyandûr» حيث جرت معركة مع القوات الفرنسية من قبل أبناء الجزيرة وقتل على أثر ذلك الضابط الفرنسي روغان،  واشترك في أعمال المقاومة أبناء قرى عديدة في المنطقة.
عرفت سنة 1925 باسم سنة «لوفة» وهي سنة برد شديد، حتى قيل أن نهري دجلة والفرات قد تجمدا في هذه السنة! وكلمة «لوفة» مشتقة من (لافت الناس) أي فصلت بينهم وبين مواشيهم.  أما سنة «مواصة» فقد كانت في عام 1930، وتعني الغُسَالة أي ما غسل به الثياب أو الإناء، وكانت سنة جدب وقحط، ماتت فيها المواشي جوعاً، ودام فيها الثلج أياماً عدة. كما تعرف هذه السنة بـ«أم عظام» لأنها لم تترك من المواشي سوى العظام!
سنة طوشة عامودا « Toşa amudê»، وهي سنة انتفاضة مدينة عامودا وقراها ضد الاستعمار الفرنسي، وقيام الفرنسيين بقصف مدينة عامودا وقراها بالطائرات عام 1937.
عام 1940 كانت سنة الميرا، عندما قام الاستعمار الفرنسي بتأسيس مكتب الميرا، وعين ضابطاً مهمته مصادرة مؤن الفلاحين من القمح والحبوب المختلفة، وكانت ترسل لجان التفتيش على الحبوب والمؤن في المنازل، وتنبش ما خبّؤوه في حفر تحت الأرض  كانوا يسمونها (الجفر). وتتوالى السنون فكانت سنة 1942، سنة «الجدري»، عمّ المدن والأرياف وباء الجدري مترافقاً مع وباء الملاريا، بسبب انتشار المستنقعات والأشجار الكثيفة ونباتات القصب والقاميش والسوس والزل. ويعدّ وادي الجراح ومستنقعاته الكثيرة أحد أسباب انتشار الملاريا . فضلاً عن كثير من الأمراض التي تعرّضت لها المواشي.
عرفت سنة 1943في الجزيرة العليا باسم سنة القمح «Sala genim» بسبب قيام القوات الفرنسية بمصادرة مؤن الفلاحين من القمح لتزويد الجيش الفرنسي بها كما عرفت باسم سنة «التمر» في الرقة وعين العرب بسبب قيام الجيش الفرنسي بمصادر مؤن الفلاحين والقبائل الرعوية من التمر. وعرفت أيضاً بسنة «السبع ثلجات»، إذ هطلت الثلوج في الجزيرة سبع مرات، وسنة «العايشة» وتسمّى أيضاً بسنة العايشة من العَيش. والإعاشة: توزيع المؤن على الذين أصابهم القحط من أبناء القبائل. وعرفت سنة استقلال سورية عام 1946 باسم سنة «الوطنية». وهناك أيضاً سنة المقاومة الشعبية عام 1956 أثناء التهديدات التركية بغزو سورية وسنة حريق سينما عامودا عام 1961 التي ذهب ضحيتها 250 طفلاً. وغيرها الكثير من السنوات، التي أرخت لأحداث متنوعة وعديدة.