الصعاليك: صوت المقهورين في الصحارى

الصعاليك: صوت المقهورين في الصحارى

الصعلكة لغة تعني الفقر،  والصعلوك حسب معجم لسان العرب هو «الفقير الذي لا مال له، تصعلك الرجل أي افتقر». وقيل: تصعلكت الإبلُ أي خرجت أوبارها وانجردت طرحتها. وهي مذهب أذكته طبيعة الحياة الجاهلية ومجتمعها المنقسم إلى فئتين من الناس، فئة مترفة يتوفر لها كل ما تحتاج إليه في الحياة، وفئة معوزة تعاني ذل القهر والحرمان. 

إيمان الذياب

شمل مصطلح الصعاليك في التاريخ الأدبي مجموعة من الشعراء ممن خرج عن النظام القبلي السائد، وامتهن الغزو. ينقسم الصعاليك إلى ثلاثة أقسام من حيث التصنيف حسب ما اتفق عليه المؤرخون وهم: «الأغربة»، حيث كان البعض يأنفون إلحاق أبنائهم من الإماء بنسبهم وينبذونهم، فكان هؤلاء يتمردون على ذويهم ويخرجون إلى الصحراء، ومنهم السُّليك بن السُّلكة ، وتأبط شراً، والشنفرى. و«الخلعاء» ممن خلعتهم قبائلهم، لخروجهم على أعرافها والتمرد على نواظمها،  ومنهم حاجز الأزدي، وقيس بن الحدادية، الذي يرتجز ذاكراً قصة خلعه وبغض أهله له بالقول:

أنا الذي تخلعه مواليه 

وكلهم بعد الصفا قاليه

وكلهم يقسم لا يباليه 

 

أما «المحترفون»، فهم الذين احترفوا الصعلكة احترافاً وحولوها إلى ما يفوق الفروسية، من خلال ما يقومون به من أعمال، ومنهم عروة بن الورد.

عبرت نصوص الصعاليك عن الرغبة في تجاوز نظام القبيلة السائد، ورفض الوضع الطبقي في المجتمع القبلي الجاهلي، كقول عروة بن الورد:

ذريني للغنى أسعى فإني

رأيت الناس شرّهم الفقير

ويُلقى ذو الغنى وله جلال

يكاد فؤاد لاقيه يطير

قليل ذنبه والذنب جم

ولكن للغنى رب غفور

 

وتمحور شعرهم حول جوانب اجتماعية انسانية عديدة كالجوع والحرمان، واستئثار الأغنياء والدعوة للثورة عليهم.  ووصفوا بالصبر وشدّة المراس  وسرعة العَدْو، بالإضافة إلى الشّجاعة والحمية والقوّة والفتوّة، وحيكت حولهم الأساطير، وضربت بهم الأمثال،  كالقول: «أعْدى من السُّليك»، مثلاً عن  السرعة. 

ظاهرة عميقة تتكشف

الصعلكة ليست مجرد ظاهرة أدبيّةً، بل حالة اجتماعية تكشف عن وعي مبكر لدى الإنسان - فيما يسمى- الجاهلي للتحرر والرغبة في تحقيق العدالة الاجتماعية، بالإضافة لكونها تسلط الضوء على بعض جوانب الوضع الاجتماعي والسياسي في ذلك العصر. يؤكد ذلك غسان كنفاني: «كان موضوع الشعراء الصعاليك في تاريخ الأدب العربي موضوعاً مهماً أكثر من أي موضوع آخر في هذا المجال. وأعتقد شخصياً أن الاضطهاد الذي لحق بتاريخ شعراء الصعاليك لا يوازيه من حيث السوء والتشويه والإهمال إلا الاضطهاد الذي لحق اجتماعياً بتاريخ القرامطة على ما في التاريخين من اختلاف وما فيهما من تشابه أيضاً».

وقد مثّل الصعاليك الصوت الفردي، صوت «المعارضة» الخارج على مجتمع القبيلة، الذي شكل وحدة اجتماعية اقتصادية سياسية نوعاً ما في ذلك الحين، عبر عنها الأدب وخصوصاً الشعر أصدق تعبير، إذ كان للشعراء دور هام تعدى الجانب الفني والإبداعي، فكان الشاعر هو المتحدث الرسمي باسم قبيلته، ولسان حالها، مقابل أن تمنحه القبيلة لقب «شاعرها»،  وأطلق على هؤلاء لقب « شعراء القبائل»،  طبعوا شعر هذا العصر بطابع قبلي ميزه عما سواه. ويتضح ذلك في قول الشاعر: 

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

بينما يخرج الشنفرى عن قبيلته،  فيقول:

أقيموا بني أمي صدور مطيكم

فإني إلى قوم سواكم لأميل

ولي دونكم أهلون سيد عملس

وأرقط زهلول وعرفاء جيأل

هم الأهل لا مستودع السر ذائع

لديهم ولا الجاني بما جرّ يخذل

مواقف اجتماعية

كان للصعلكة  قادة وأنصار،وضعوا أسسها ومبادئها العامة، ودعووا إليها والاستعداد للموت في سبيلها، وللانتفاض على الظلم الذي يعانونه، ولذلك كانوا معنيين بالتنظير والتبرير لحركتهم، وسلوكهم، المناقض لما هو سائد في مجتمعاتهم، يقول عمرو بن براقة: 

وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم

فهل أنا في ذا، يالهمدان ظالم

وكان طلبهم للمال والغنى من أجل توزيعه على الفقراء والمحتاجين، ووضعوا لأنفسهم معياراً للتفاضل غير معيار النسب، فالتمييز بين الأفراد يجب أن يكون على أساس أعمالهم وفعالهم، لا على أساس أنسابهم وأحسابهم. حيث يعلن عروة بن الورد، رفضه لأسس السيادة والشرف والحكم، التي كان يتبعها المجتمع القبلي:

ما بالثراء يسود كل مسود

مثر ولكن بالفعال يسود 

ورسموا لأنفسهم سبيلاً يخصهم، فإما حياة كريمة أو موت كريم. يؤكده قول عروة:

فقلت له ألا أحيَ وأنت حرّ

ستشبع في حياتك أو تموت

كما برعوا في وصف حياة المنفى التي عاشوها، ومشاقها. 

«إنني أؤمن بأن الطريقة الأجدى لدراسة الأوضاع الاجتماعية القبلية في الجاهلية وصدر الإسلام، هي في ملاحقة الآثار الشعرية الهائلة التي خلفها الصعاليك، فهؤلاء كانوا بالفعل يمثلون حركة التمرد الثورية على البناء الطبقي العرقي والاجتماعي للقبيلة. فنحن لا نستطيع أن نأخذ صورة عن الحياة الاجتماعية لعرب يعيشون باطمئنان داخل البناء والجهاز التقليدي للقبيلة،  والذين كانوا يرون فيه نموذجاً لا يمسه الباطل ولا النقد. 

صحيح أنه كتب الكثير عن الصعاليك ولكن هذه الكتابة كانت شيئاً يشبه تاريخ إذاعة بيروت من لبنان لحركة الثورة في فيتنام، أو تأريخ هوليوود عن الهنود الحمر. فقد انصب التقليديون على تشويه الصعاليك والنيل منهم، واعتبارهم مجرد قطاع طرق لا يمثلون على الإطلاق ظاهرة أعمق من ذلك بكثير، على صعيد طبقي واجتماعي وقبلي. وفي رأيي أن شعراء الصعاليك كانوا صوت الضمير الحي، كانوا يمثلون رفض المضطهدين للاضطهاد وثورة المسحوقين اقتصادياً واجتماعياً وعرقياً، على الطبقة الارستقراطية المتحكمة بالرزق والدم، وبسطوة التقاليد المتهرئة والتحكم الطبقي.

لقد تمرد هؤلاء الرجال على البنيان الاقتصادي والطبقي وأحياناً العنصري في القبيلة، وبالرغم من ذلك كانت القبيلة هي القانون وهي الحماية الوحيدة للإنسان في الصحراء الوحشية الخالية المخيفة، فإنهم لم يختاروا أن يستبدلوا موقفهم العقائدي بالاطمئنان القبلي . وتمردوا على القبيلة وخُلِعوا منها ومن حمايتها وطُردوا من إطارها فانطلقوا الى الصحراء العميقة الموحشة كل منهم بحصان وموقف وسيف. وأحياناً بسيف وموقف فقط ليظلوا قادرين على الالتزام بإيمانهم والتعبير عنه بالقوة. فوراءهم كانت توجد قضية: قضية طبقة، أو قضية لون، أو قضية رأي وكان التزامهم بهذه القضية يدفعهم للقتال من أجلها». 

 

غسان كنفاني