عيد «أكيتو».. تموز قادم
في هذا العام، يمر عيد رأس السنة الآشورية، «أكيتو»، على منطقة الخابور، وقد طالتها الحرب. العيد الذي يروي في كل عام قصة انتصار الخير على الشر، ماذا سيقول الآن؟
صادف الأول من نيسان من كل عام عيد رأس السنة الآشورية، الذي يحمل اسم «أكيتو». في مثل هذا اليوم قبل 6765 عاماً، منح مجلس الآلهة إله الخصب تموز خلوداً نصفياً، صار بموجبه يُبعث بدءاً من هذا اليوم وحتى ستة أشهر أخرى. يبعث الإله تموز الخصب والخير في منطقة ما بين النهرين في الربيع والصيف، ليعود إلى عالمه السفلي فيما تبقى من العام، حاجباً خصبه عن أبناء ما بين النهرين.
أسطورة «أكيتو» جاءت من التاريخ الذي مرّعلى منطقتنا على مدى آلاف السنين. فكم يشبه الإله تموز شعوب هذه المنطقة في معركتها مع الظلام أينما كان؟ أعداء وغزاة كُثر مروا على هذه الأرض، حجبوا الطاقات الخصبة والغنية والخيّرة لشعوبها ردحاً من الزمن، ولم يطل بهم الأمر حتى فرّوا هاربين من - صعود شعوب منطقتنا- تموز مجدداً من الدرك الأسفل إلى مسرح الفعل، حاملة معها الخصب والخير والحضارة.
نغتنم اليوم فرصة «أكيتو»، لا لكي نتحدث عن مناسبة قومية فقط، ولا لكي نكرر حديثاً عادياً عن فلكلور شعوب عريقة، ولا لكي نضع القوميات الكثيرة والغنية في منطقتنا في لوحة «فسيفساء» مقسمة إلى ألوان ومجمعة في إطار واحد فقط. نغتم فرصة «أكيتو» لنحكي عن حالنا، ليس رداً على تقوله عنّا قوى الظلام والفساد، ولا لنبرهن لأحد بأننا من هذه الأرض. نغتنم المناسبة لتكون مرآة لما نمر به..
قحط.. وظلم
لنبدأ الحكاية منذ سنوات بعيدة. القصة بدأت عندما دب الفقر على ضفتي نهر الخابور، بدءاً من تل تمر، مروراً بكل التلال المجاورة، التي تزيد عن ثلاثين تلاً وقرية، وصولاً إلى جبل عبد العزيز، الذي كان يتجه إليه آلاف الآشوريين في الأول من نيسان، من كل عام، لإحياء ذكرى «أكيتو» باحتفالات مهيبة. لم يميز ذلك الفقر، كما هي حاله في كل أصقاع الأرض، بين آشوري وعربي وكردي.. الخ، بل كان يوحد حفنة من الأغنياء من كل المشارب في مواجهة الفقراء فقط. جف نهر الخابور، وانحبست الأمطار في السماء، وظهر فاسدون في كل مكان. عانى حوض الخابور من تهميش شديد، أخذت الخضرة تنحسر عن حقوله، وغابت الحلول، ووهنت كفاءة التعليم والصحة.. الأمر الوحيد الذي أبقي عليه في ذلك الحين، هي الصورة المقتضبة والمشوشة التي دأب أولوا الأمر على تثبيتها في أذهان الناس، عن آشوريي تلك المنطقة: شعب غابر، لا يزال بعضه موجوداً حتى هذه الأيام، يمارس طقوسه القومية والفلكلورية، دبكات ورقصات بالزيّ التاريخي، تظهر بعضها دقائق قليلة كل عام في نشرات الأخبار، مصحوبة بخطابات مفخمة عن الوحدة الوطنية.
تتمة المشهد
في دمشق وبيروت، كانت سفارات الدول الأجنبية تعرف عنّا أكثر ممن هم داخل البلاد. كانت تخص آشوريي الخابور بعروضها المغرية للسفر إلى ما وراء البحار، مستغلة ظروفهم الصعبة ومعاناتهم من جفاف الأرض والسماء. المئات من الشابات والشبان الآشوريين سافروا على مدى عقدين من زمن، قبل الأحداث. ولكن، بالرغم من سخاء العروض، ما كان هؤلاء يبرحون مكانهم، إلا بعد توثيق عرى ارتباطهم ببلادهم: لكل آشوري مغترب بيت للعودة على ضفاف الخابور، وعلى كل شاب آشوري، بحكم الأعراف، تأدية خدمة العلم أولاً قبل أن يفكر بالسفر، ومعظم كبار السن ممن التحقوا بأولادهم في الخارج، عادوا بعد أشهر حاملين السخط على الحياة في البلدان الأجنبية التي حوّلت البشر إلى «ماكينات». ظل الخابور انتماء الآشوريين العميق، ولم تفلح مغريات الدول الأجنبية، التي ظلت تفوح منها رائحة الشبهات، في إفراغ الخابور من آشورييه.
وأتت «داعش»
جاء داعش ليكمل لف المشهد بالظلام. جاء إلى تل شميران وتل هرمز وأطراف تل تمر، يستعرض عنفاً يومياً ويقول بقية الرسالة. جاء ليقول لم يعودوا هؤلاء (الآشوريين) سوريين، عليهم أن يصيروا قضية العالم بأسره بعد مجيئنا، على المشهد أن يغدو غاية في القسوة والظلام حتى يأتي المخلصون. على العالم «المتحضر» أن يحمي هذه الفئة النادرة من براثن محيطهم المهلك..
الرسالة التي ظلت تُرسل على مدى عشرات السنين إلى شعوب ما بين النهرين، وصلت في العام 6765 على لسان داعش. الرسالة بعد ترجمتها إلى لغة التاريخ تقول: على تموّز أن يطيل غيابه، ويحجب معه خصبه إلى باطن الأرض. وعلى الظالمين أن يسرحوا ويمرحوا بغيابه ويعيثوا بالأرض فسادهم. على تموز أن يذهب إلى العالم السفلي لكيلا يخيف شُذاذ الآفاق في مسيرة تدنيسهم لهذه البلاد.
بماذا يجيب تموز؟!
في الأول من نيسان، كان آلاف الآشوريين يزحفون من أكثر من ثلاثين بلدة إلى جبل عبد العزيز في منطقة الغرّة، ليقيموا بين شجيرات البطم وأجمات الصنوبر والسرو احتفالاً بعيد «أكيتو»، اليوم الأول لانبعاث الإله تموز، متوعداً بخصبه كل المفسدين والظلّام. أما في هذا العام، وفي المكان ذاته، يقيم داعش معسكراته التي يهجم منها على حوض الخابور. قبيل ظهور تموز هذا العام، يقف مجرمون فوق مكان التخاطب معه، ليقولوا له لا تظهر مرّة أخرى..!
ليس لتموز جواب آخر غير الذي قاله على مدى 6765 عاماً لكل من ظلم وطغى. تمّوز قال وفعل، بأنه سيخرج لا محالة من عالمه السفلي، وسيقتص من كل المفسدين والظالمين. بعد سنين طويلة من البغي والجبروت، سيخرج تموز غاضباً ومعه جموع غاضبة. فحذارِ من غضب تموّز..!.