قواعد «عشق الفن» كما تسنها المؤسسات الثقافية السورية
احتملت صديقتي آلام أقدامها طوال النهار، لأنها تريد أن تبدو أنيقة في المساء كي تستطيع حضور حفلة موسيقية. فالبروتوكول الجديد لدار الأوبرا في دمشق ينص على ضرورة ارتداء ثيابٍ رسمية. وبما أن أحداث هذه القصة تحصل في دمشق، المزدحمة التي تعاني من ألف أزمة وأزمة، كان على صديقتي أن تخرج في الصباح إلى الجامعة لتقديم امتحانها. تحركت سيراً على الأقدام طوال النهار،
وحينما همت في الدخول عند الباب الرئيسي للدار، منعها الحارس عند الباب متذرعاً بأنها ترتدي بنطالون جينز يتعارض والبروتوكول الجديد. لم تحاول صديقتي أن تثبت للموظف بأنها ترتدي حذاءً رسمياً، لم تشر بيدها إلى ياقة القميص لأن الإهانة جمدتها أمام الباب، وفي اللحظة ذاتها، عبرت فتاةٌ، بشعرٍ أحمر نصفه حليق، والنصف الآخر مسترسل. البنت بتسريحة الشعر الغريبة دخلت دون مشقة لأنها كانت ترتدي ثوباً. بعد أخذٍ ورد سمح لصديقتي بالدخول، لكن الشعور بالإهانة كان قد حدث. في المقابل اعتذر عدد من الأصدقاء ذاك اليوم عن مجرد محاولة الذهاب لحضور الحفل، لأن ظروف حياتهم اليومية وصراعهم مع المواصلات ستحول دون قدرتهم على ارتداء ثياب تتوافق و«البرتوكول».
قد تبدو تلك مجرد حوادث فردية، لكنها لا تبقى كذلك إن كانت تحدث كل يوم مع عددٍ متزايد من شرائح المجتمع السوري. فاليوم تتسع الهوة أكثر وأكثر بين «الفقراء مِنّا» و«الأغنياء منهم»، بحيث تترك آثارها على تفصيلٍ هامشي كحضور حفلٍ موسيقي. هناك وادٍ سحيق، بين من لا يملك ثمن ثيابٍ رسمية،يتحرك سيراً على الأقدام، يصارع لحجز مقعد في باص. وبين من يستطيع النزول من «مركبة فضائية»في ساحة الأمويين دون أن يوسخ ثوبه.
بعد نهارٍ طويل فكر كل مِنّا بما سيرتديه، وشعر بأنه فقير وهو يقلب ثيابه في الخزانة. سمعت من أصدقاء بأن مدير دار الأوبرا «جوان قره جولي» حل في وقت سابق ضيفاً على برنامج إكسترا تلاقي من إعداد وتقديم أمجد طعمة (21-2). فعدت لحضور الحلقة علني أجد إجابات مقنعة تفسر الإصرار على تطبيق عشق الفن للبروتوكول المقدس في هذا الزمان والمكان. في الحلقة تطرق السيد جولي لأهمية القرار، وأكد أن جزءاً كبيراً من الناس الذي كانت تدخل الدار لم تكن تأتي لحضور الحفلات، بل الهدف في نظره «الطمع في الكهرباء والتدفئة».
يحاول المذيع تذكير الضيف بالظروف الصعبة ومستوى دخل الفرد، ويتحدث عن حاجة الناس إلى متنفس. يجيب المدير بأن من يحترم الدار مرحب به في الدخول. ويؤكد بألا أحد مُنع مؤخراً من الدخول. «موزارت قطع 240 كلم سيراً على الأقدام لحضور حفل، يوسف عوض ومحمود حديد من سورية، باعوا ثيابهم لشراء أسطوانة لنوادر أم كلثوم» يشرح السيد قره جولي. «هكذا أنا أفهم عشق الفن» يضيف.
وفي موضعٍ آخر من اللقاء يتحدث المدير عن أحلامٍ وردية لبناء مسرح خارجي ذو قبة زجاجية، كما لو أنه يتحدث عن كوكبٍ آخر لا تسقط فيه القذائف على دار الأوبرا ومحيط ساحة الأمويين أو تهدد طلابها.
كل ما تم التطرق له حتى الآن لم يتجاوز«عتبة الباب» وصولاً إلى ما يجري في الداخل، كثيراً ما يجد المرء نفسه بعد أن اجتاز امتحان الأناقة عند الباب، مضطراً للاستماع إلى كلمات رسمية مطولة، تسقط من حساباتها وجود اتجاهاتٍ سياسية واجتماعية مختلفة لشرائح الجمهور. كما لو أن أحداث السنوات الأربع الماضية، لم تجبر الخطباء على التريّث بضع دقائقٍ فقط، قبل أن يلقوا على الجمهور خطبةً عصماء أحادية التوجه، طويلة، مكرورة.
في نشاطٍ ثقافي نظمته إحدى الحركات الشبابية، يتحدث أحد المنظمين عن أهمية الاحتضان الشعبي للفنانيين السوريين، ممن تحملوا الإهانات والشتائم والتضييق والتهديد نتيجة مواقفهم السياسية. ويؤكد على ضرورة بناء سياج اجتماعي يحتضن الفنان، بدلاً من أن تكون الآية مقلوبة، بحيث يكون الفنان مديناً للمجتمع ومتحدثاً باسمه. بعد ذلك يضطر الجمهور للانتظار ما يزيد عن عشر دقائق، ريثما يفرغ منظمو الحفل من التقاط صورٍ تذكارية مع الفنانيين.
أينما تحرك المرء اليوم، يتلمس وجود نظرة فوقية يجزر فيها أصحاب القرار الثقافي فئات المجتمع الأخرى. يشعر المواطن المغمور بأن هناك ممارسات تستهدف إقصاءه وإغضابه بحيث يقرر التزام منزله، تاركاً الساحة فارغة لمن يمتلكون الأموال والثياب والسيارات الملائمة، ومن يهلل لهم على المنابر الثقافية.
لا يهم إن كانت صديقتي أو غيرها، قد استطاعوا الدخول فيما بعد، لأن ما يهم حقاً أن القرار يعكس العقلية التي أصبحت -المؤسسات الثقافية- ترى فيها فئات المجتمع. نحن بنظرهم لا نعشق الفن بالدرجة الكافية، ولم نبع ثيابنا «حتى الآن» كي نستطيع الدخول لحضور حفلٍ موسيقي.