مكتبة «إبلا».. أقدم مكتبات العالم
اكتشاف وثائق وسجلات القصر الملكي في مكتبة «إبلا» في «تل مرديخ» والتي ضمت أقدم مجموعة من الوثائق الرسمية وأكملها لدولة ظهرت في شمال بلاد الرافدين، رفع من أهمية تلك البلدات الصغيرة المنسية المتناثرة على الهضاب الكلسية في محافظة إدلب.
اكتشاف وثائق وسجلات القصر الملكي في مكتبة «إبلا» في «تل مرديخ» والتي ضمت أقدم مجموعة من الوثائق الرسمية وأكملها لدولة ظهرت في شمال بلاد الرافدين، رفع من أهمية تلك البلدات الصغيرة المنسية المتناثرة على الهضاب الكلسية في محافظة إدلب.
لقد أضافت محفوظات القصر الملكي من رقم الفخار الطينية في إبلا معلومات جديدة كل الجدة إلى تاريخ سورية والمشرق القديم في النصف الثاني من الألف الثالث قبل ميلاد السيد المسيح. وكانت من أهم الاكتشافات الأثرية في القرن الماضي. حدث ذلك في أحد أيام تشرين الأول من عام 1975، عندما كان أحد العمال يعالج تراباً هشاً من بقايا أرضية غرفة في الجناح الشمالي الغربي من القصر الملكي، فرأى فتحة صغيرة عمل على توسيعها فظهرت حجرة كبيرة تحت أقدامه، وعندما قام المنقبون بتوسيع تلك الفتحة وجدوا أنفسهم في حجرة واسعة، حيث ظهرت أمام أعينهم آلاف الرقم الفخارية الصحيحة والمكسورة، وقد تكدست بعضها فوق بعض. وصرَّحت غابرييلا ماتييه زوجة باولو ماتييه مكتشف مملكة إبلا في ذلك اليوم قائلة: «عندما رأينا الحجرة ووقعت عيوننا على كومة الألواح تملكنا شعور هستيري، إنها تشبه تماماً المكتبة التي أغلقها أمينها البارحة في الساعة الخامسة».
اكتشافات وحقائق!
كما يؤكد باولو ماتييه رئيس البعثة الإيطالية العاملة في تل مرديخ ومكتشف مكتبة إبلا: «تتألف المكتبة الملكية من عدد ضخم من رقم الفخار الطينية بلغت نحو سبعة عشر ألف وخمسمائة رقم وكسرة طينية مكتوبة، تُشكل بمجموعها الأرشيف الملكي في إبلا، تتألف من نصوص إدارية واقتصادية وقضائية ودينية وأدبية ومدرسية وقوائم معجمية ورسائل ومعاهدات. وهي رقم كُتبت بالخط المسماري، ورُتّبت على رفوف خشبية. تختلف الرقم الفخارية من حيث الحجم فمعظمها صغير لا يتجاوز أبعاده بضعة سنتمترات كالنصوص الاقتصادية وبعضها كبير الحجم تتراوح أبعاده ما بين خمسة وثلاثين وأربعين سنتمتراً وله شكل مربع أو مستطيل كالمعاهدات والقوائم المعجمية. وتُظهر لنا حجرة مكتبة الأرشيف الملكي ترتيباً مكتبياً عملياً للرقم الفخارية التي كانت موجودة فيها. حيث رُتبت الرقم الفخارية على رفوف خشبية مثبتة في الجدران، ولها دعائم أرضية بحيث وضعت الصغيرة فوق والكبيرة تحت، ويبلغ عمق الرف في حدود ثمانين سنتمتراً وتفصله عن الرف الذي يليه مسافة في حدود خمسين سنتمتراً. وقد تحوَّلت تلك الرفوف والدعائم الخشبية إلى رماد نتيجة النيران التي أصابت القصر الملكي وأدت إلى شوي الرقم الطينية وأكسبتها صلابة ساعدتها على تحدي عاديات الزمان».
وعُثر في حجرة مجاورة للمكتبة على رقم طينية وعلى جرة مملوءة بالطين وبعض أدوات الكتابة -أقلام من العظم- مما يُثبت أن هذه الحجرة كانت تُستخدم لكتابة الرقم الطينية. وقد أكد رئيس البعثة الإيطالية أن المكتبة هُدمتْ مع القصر الملكي، وبدا تأثير الحريق واضحاً على الخشب المتفحم وعلى «الطوب» المُجفف تحت أشعة الشمس والذي بُنيت به جدران المكتبة والقصر الملكي. وقد رجَّح أن هذا الحريق تم بفعل الملك «نارام سن» حفيد مؤسس الدولة الأكادية «شارو- كين» في حدود عام (2250 ) قبل الميلاد، والذي يفخر في كتاباته: «إني أنا الذي فتح إبلا ولم يكن بإمكان أحد قبلي أن يقوم بهذا العمل».
أهمية تاريخية
أثار اكتشاف مكتبة إبلا وسجلاتها ضجة علمية كبرى بين علماء الآثار ومؤرخي الشرق القديم، وأكد أمرين: الأول أن الحضارة يمكن أن تنشأ وتتطور بعيدة عن الأنهار الكبرى، فدولة إبلا كانت منطقة زراعية كبيرة اعتمدت -بشكل رئيسي- على مياه الأمطار والمحاصيل البعلية. والثاني أن سورية كانت في الألف الثالث قبل الميلاد دولة قوية ومركزاً حضارياً مهماً كما هو حال دول المدن السومرية في وادي الرافدين: (أور، اريدو، لارسا، أوروك، لكش، أومّا، ايسن، أدب، نيبور، كيش، أشنونا، بابل، ماري)، كانت هذه المدن العامرة بالحضارة والتي نشأت على حافة أحواض القصب على ضفاف دجلة والفرات أرقى الأماكن في العالم، وفيها ولدت الكتابة في حدود الألف الرابع قبل الميلاد، لذلك يكتسب اكتشاف مكتبة مملكة إبلا أهمية تاريخية وأثرية كبيرة في القرن العشرين.