المعرض التشكيلي «قمح»..
في زمن الأزمة، زمن يحترق فيه الأخضر واليابس.. تنبت سنبلة قمح..
من شقوق الجدران المهشمة.. من شقوق الأرض التي حرقها الجفاف والنار.. اسمٌ على مسمى ( قمح ).. كما هو رمز الخير والحياة والبقاء.. في زمن الموت والجدب..
فنانات وفنانون شباب، خريجو كلية الفنون الجميلة.. يقتحمون هيمنة الكبار واحتكارهم صالات العرض، ويفرضون حضورهم بحماسهم، وأفكارهم، وإبداعاتهم، متحدين ظروف الأزمة والقصف دون خوف.
ستة عشر فناناً أضاؤوا مجدداً سماء الحركة التشكيلية السورية، التي تراجعت في السنوات العشر الأخيرة، في محاولة لإعادة الحياة والألق الخافت لها.
ما يقارب الخمسون عملاً إبداعيا متنوعاً ما بين التصوير الزيتي بأحجام مختلفة، والطباعة الحجرية والمعدنية وبالشاشة الحريرية، والنحت والتكوين المعدني.
الألوان الباردة تحتضنها الخطوط السوداء لكنها لا تغرق في الظلام.. وحركة الأجساد المحطمة تتكلم وتصرخ بأنها لن تستسلم، بصمات الأيدي تكاد تظهر على المنحوتات المشكلة لجسد الإنسان، المعدن البارد لوناً وكتلةً، يشع فيه دفء باطن الأرض.
خمسون عملاً كفيلم توثيقي هي بمثابة مرايا تعكس علاقة الإنسان بالإنسان، تصور الموازين المقلوبة وتعيد تركيبها، تكسر نمط التعبير التقليدي، مستمدةً جذورها من إرثٍ حضاري يمتد لآلاف السنين.. شكلاً ومضموناً، تخاطب الفكر والأحاسيس الخمسة وتترك للحاسة السادسة استشفاف المستقبل..
وحضرت المرأة، عشتار السورية، رمز استمرار الوجود والخصب والحياة، بقوة جسداً وروحاً، خطاً ولوناً وحركةً مشبعةً بالقوة والصلابة وروح التمرد والأمل، في مواجهة القهر الاجتماعي والعنف والاغتصاب الجسدي والفكري.. في انتظار الأمل القادم لا محالة..
جسّد علي العايق قيود القهر الاجتماعي فاقتصرت لوحته على قدمين من جسد إمرأة واشتغل على توزيع الظل والنور باستخدام اللون، للدلالة على الصراع بين العبودية والحرية.
وصوّر صبحي ريا في لوحته عاصفةً تقتلع كل ما هو أمامها وتظل نخلة وهياكل الأبنية فقط متشبثة بالأرض، تتحدى العاصفة. أما باسل زغيب فقد استخدم اللون وتوزيع الظل والنور مصوراً المواجهة بين الحياة وقوى القهر الداخلية والخارجية، من خلال جسد المرأة العاري وتكوره، ثم الوقوف المتحدي للمشانق المواجهة لها.
واستخدمت إيلاف سليمان الماء أصل الحياة كرمز للوجود والبقاء منذ نشوء الإنسان. وجمعت ديانا عيد بين اللون والخطوط السوداء في تجسيد المرأة المستلقية كغانيات ألف ليلة وليلة ولكن من بيئة فقيرة. بينما رصد عبيدة زريق بألوان حارة دوامة ملونة ومتحولة لوجه بلا ملامح يصعد معها إلى الأعلى. وجسدت زينة تعتوع المرأة في حالة انتظار للغائبين دون ملل أو كلل. واستخدمت تمارا نهار تقنية الكولاج في التعبير عن انقلاب الموازين.
اتخذت هبه ابراهيم الوجوه المتداخلة بملامح مختلفة وباردة، وتنوع النظرة بين البرودة والتحدي. قدمت إيمان نوايا ثلاث لوحاتٍ مترابطة، مجسدة المرأة بأشكال مختلفة ومقاييس غير متناسقة، وحركات متباينة.
كما جسدت زها محمد في لوحة بالمقاس الكبير الطبيعة غير الصامتة في عاصفة هوجاء تضيع فيها الحدود بين الأرض والسماء ويطغى عليها اللون الكحلي المزرق وضربات غير منتظمة للريشة. وعبرت كنانة صبح في كتل نحتيه لجسد المرأة مستخدمةً البولستر المعتق بلون البرونز ولون العظم، كما استخدم ميسم مليشو المعدن في تكوينات تبين علاقة الإنسان بالحيوان، واستخدم عمار خزام المعدن أيضاً، مع فصل الإنسان عن الحيوان للدلالات ذاتها. كما وصورت راما السمان صراخ هياكل بشرية متداخلة فيما بينها واستخدمت الأسود والأبيض، وتداخل الظل والنور بينهما. وجسدت بيلسان دياب بأعمالها النحتية نزوع المرأة نحو التحرر من الكبت والقهر.
على هامش المعرض..
على ضفاف المعرض، التقت قاسيون ببعض زوار المعرض من طلاب السنة الأولى في كلية الفنون الجميلة، الذين أكدوا على أهمية دور الفن التشكيلي في الحياة كرافعة فكرية وفنية لتنمية الذوق الجمالي، وتحدثوا عن القصور في نظرة المجتمع للفنان التشكيلي، وأشاروا إلى بعض معاناتهم، وبالأخص المادية، أثناء دراستهم، حيث يضطرون لاقتطاع ثمن المواد الأولية الفنية اللازمة، والتي يفترض أن توفرها الكلية، من لقمة عيشهم. بالإضافة إلى ضعف اهتمام بعض المدرسين بعمل الطلاب والتقصير في نقل الخبرة والتكنيك لهم.
تراجع الحركة التشكيلية
والتقت قاسيون بعض الفنانين المتواجدين في المعرض، ودار حوار حول الحركة التشكيلية السورية سابقاً والتي قدمت مبدعين كبار على مستوى الداخل والمنطقة والعالم كأدهم اسماعيل وفاتح المدرس وعمر حمدي، وبعض هؤلاء وصل إلى العالمية، فالوصول إلى العالمية ينطلق من التعبير عن المحلي في درجة أولى كما هو معروف.
كما تناول الحديث تراجع الحركة التشكيلية في السنوات الأخيرة نتيجة تراجع دور الدولة ومؤسساتها الثقافية بالقيام بواجبها وسيطرة النمط الاستهلاكي، بالإضافة إلى ضعف التغطية الإعلامية للحركة الثقافية عموماً والتشكيلية خصوصاً، والتهميش الذي طالها.
هموم كبيرة ومتعددة تبدأ من نظرة المجتمع للفن عموماً والتشكيل خصوصاً، وكذلك ارتفاع أسعار المستلزمات الفنية، والأهم عدم وجود دخل مادي ثابت للفنان يسمح له العيش فقط، ناهيك عن مشكلة العرض المحدودة في الصالات وللنخب، ولعل المشكلة الكبيرة بالنسبة لهم هي التعامل مع اللوحة أو الإبداع التشكيلي وتسويقه، حيث لا قدرة للمواطن العادي لاقتنائها، وبعض دوائر الدولة ومؤسساتها تعتمد العلاقات الشخصية في العمل!
وتناول الحوار قضايا أخرى كالتطور التقني وتأثيره على الفن والتشكيل، ودوره في المجتمع كرافعه فكرية وجمالية وغياب النقد الفني نتيجة تراجع الحركة التشكيلية، ودوره في تطويرها والمدارس الفنية، والهوية السورية للفن التشكيلي.