خرافة الحياد
تمنعت كثير من النخب في سورية منذ بداية الأزمة عن إبداء أي رأي أو اتخاذ موقف حقيقي من الأحداث التي مرت بها البلاد طوال سنوات الأزمة الثلاث الماضية، ولا من تطورات الصراع الجاري في البلاد لاحقاً، وكأن كل ما يجري سطحي وتافه ولا يستحق التعليق..
في البداية انطلق البعض من اعتبار الأزمة «مرحلية»، فلماذا يكلف نفسه عناء موقف قد يجر عليه السوء؟! والبعض الآخر ذهب إلى التبرير، في معالجة الأسباب الحقيقية وإخفائها تحت ستار كونها ناتجة عن الخطأ الإنساني فقط «لأن الإنسان خطّاء!»، وأن الأشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية! ووصل الأمر بهم إلى النظر إلى وقائع «الفساد والغش والاحتيال..» وتبريرها على أنها نتيجة مترتبة على الضعف الإنساني!
وانطلقت هذه النخب في دفاعها عن نفسها من أسطورة الحياد، فأقصى درجات الموضوعية عندهم تتمثل في الابتعاد عن «التحزب» في الصراع الجاري. وبدلاً من اتخاذ موقف ما مما يجري، واظبت هذه النخب على الظهور بمظهر ينأى بها تماماً عن الصراع المحتدم، والترويج لفكرة أن دورهم ينحصر فقط باعتبارهم «الأداة الوظيفية المحايدة» لمصلحة المجتمع! فالآراء الخلاقة والصحيحة هي فقط تلك التي لا تبتغي سوى المصلحة العام وتخدم الجميع دون تحيز أو محسوبية!
وبمواصلة الإصرار على الحياد يعتقد هؤلاء أن بإمكانهم الحصول على الاستقلال "القيمي" من خلال الانعزال عن كل القوى الاجتماعية المؤثرة في كل الأحداث والصراعات الجارية في البلاد. حيث يصر هؤلاء «الموضوعيون جداً» على عدم التدخل في الصراع السياسي والاجتماعي، فهناك في «سوق الأفكار» سلسلة من الأفكار والرؤى والمعارف القائمة على حقائق ومعلومات، ينتقي منها هؤلاء ذلك القسط من المعلومات التي تتلاءم أكثر مع نموذج أو نمط الحقيقة التي يحاولون تكوينها، وأحياناً يطالبون الأفراد العاديين أن يتمثلوا خطاهم ويفعلوا مثلهم.
تكونت أرضية ثابتة ومستوى من عدم الثقة «الإيجابي» عند السوريين المرهقين بأعباء وأثقال الأزمة من خلال التجربة، ليس فقط بمن يقف بوجه الحلول الممكنة، ويحاول سلبهم الحياة وتطويعهم للقبول بأي شيء، بل حتى بهذه النخب التي مازالت تعتقد انها ترى وتسمع لكنها عاجزة عن سماع الكثير مما تقوله عيون الناس المتعبة والناظرة باشمئزاز إلى المواقف الحقيقية لهذه النخب.