«المثقف» عارياً أمام «داعش»!
في النقاش مع «المثقفين» حول ظاهرة «داعش» لا يستطيع معظمهم مغادرة الصورة التي روجها الإعلام عن هذا التنظيم. جز الرؤوس، والدماء، واللحى، واللون الأسود، وصيحات التكبير، كفيلة بجعل بعض مثقفي اليوم مذعوراً وعاجزاً، ليفتح النار على تراثنا الديني وتعاليمه محملاً ثقافتنا وتاريخ مجتمعاتنا وزر هذه الظاهرة، جالداً بذلك مجتمعاتنا وتراثنا بأقصى أشكال التعسفية.
لا يحتمل هذا «المثقف» تخيل مبازرة أقداح الخمر ولياليه الحمراء ومجونه العابث «المبدع» بحجاب «داعش» الشرعي، وهو بذلك كما «الداعشي» الذي لا يستطيع تخيل نفسه دون تطبيق «حدود الله». فكلاهما سيخسر عوامل فوقيته وهيمنته على الإنسان البسيط، ليصير محض إنسان عادي من دون أي تمييز، وبالتالي من دون مبرر للوجود طالما أن إثبات الذات بشكلياتها هي ديدن الاثنين.
جرح الهوية.. واغتراب «المثقف»
في الصورة أعلاه تبدو الأمور فاقعةً تماماً لكن إشكالية «المثقف»، الذي نُصِّب علينا بهذه الرتبة، أنه حاول تفسير ظاهرة «داعش» بالبحث عن جذور العنف الدموي في الإرث الديني المشرقي ليتثبت من أصالتها، وليجد لها تفسيراً ما حتى لو كان خارجاً عن سياق سياسي وتاريخي محدد، أو ليجد فيها ثقافة همجية محضة خارجة عن التفسير النفسي والاجتماعي والسياسي، ليعلن على الملأ أن هذه الظاهرة هي بنت التراث الأصولي بشكل أو بآخر، فيعزل كل ما جاء به تاريخ مجتمعنا من تراث ديني عن السياق السياسي والاجتماعي له.
يقع هذا «المثقف» مهزوماً أمام الطعنات في هوية مجتمعاتنا غير المكتملة، خاصة إذا كان مبعث هذه الطعنات هو «الحداثة» و«العلمنة» المستندة لمعايير الثقافة الغربية التي تعتبر مرجع «مثقفنا» في تصنيفاته الحضارية. ليعلن أن النص والأصل هما جذر المشكلة وليست النصوصية والأصولية رغم أن ظاهرة «داعش» أكبر من أن تكون ظاهرة أصولية أو نصوصية. فهل انتبه «المثقف» أو قرأ النصوص التي تستند إليها «داعش»؟ وهل تستند «داعش» أصلاً إلى نص مكتوب؟! هل طابق بين التراث الديني وغيره وبين هذر «داعش»؟! هل وعى المثقف وظيفته التاريخية بإنقاذ التراث من براثن الفاشية بديلاً من إطلاق النار عليه؟!! يبدو أن أولى نتائج هيمنة صورة «داعش» -والتي اعتمدت أكثر أشكال «الأصولية الدينية» هذراً وسطحيةً، وهذا إن سلمنا بأنها أصولية أو نصوصية، فهي لم تتعب ذاتها حتى بإقناع مريديها بنص ديني واضح ليقال عنها ذلك- أن «مثقفنا» وقع بالأدوات ذاتها التي تعتمدها داعش في الترويج لذاتها، فصدقها. ولا يمكن تفسير انطلاء هذه الكذبة عليه إلا بحالة الاغتراب الشديد لـ«لمثقف» عن مجتمعه ورعبه من خفايا الأمور، وذلك إن أحسنا النوايا.
الوهابية بين السياسة والتراث
إن أقرب الأفكار الأصولية التي تستند لها «داعش» على سبيل المثال هي أفكار «الوهابية» التي لم تكن يوماً إلا «مبادئ انعزالية» ظهرت كرد فعل أولي على سياسات فترة انهيار الحكم العثماني، ثم التقطها وأرساها التحالف السياسي مع «آل سعود» والمبرمج من الإمبريالية الانكلوساكسونية إبان محاولات سيطرته على نفط الخليج في أوائل القرن الماضي. لاحقاً تم تعويم ثقافة السلفية الجهادية المدعومة إعلامياً واقتصادياً وسياسياً من البترودولار في أماكن الصراع بين قوى التحرر والشعوب ضد الإمبريالية العالمية. وإن هذه المبادئ الانعزالية لا يمكن أن ترسخ إلا باستمرار الأدوات الداعمة والمنشئة وهي أدوات سياسية واقتصادية وإعلامية محضة بمعزل إلى حد بعيد عن الجذور الثقافية والتراثية. ألم تشكل العوامل السياسية والاقتصادية والتدخلات الأجنبية وأيديولوجيات الفاشية العالمية شروط ظهور «داعش»؟! إن الجذور التراثية وفيما لو كانت موجودة فهي ليست عوامل حاسمة أو مؤثرة في هذا السياق، فالحياة الإنسانية ترفض الانعزالية بطبيعتها، وهي بصراع دائم ضد الرجعية، فالتقدم والتطور هو قانون الحياة الخالد الحاسم لهذا الصراع، ولا يمكن الالتفاف على هذا القانون أو تأخيره إلا بفعل أصحاب المصلحة وهي قوى الفاشية التي تحاول التحكم بكل مقدرات العالم.
إن البحث في التراث الإسلامي أو العربي عن هذه الأفكار الانعزالية والقول بأنها شرط من شروط ظهور هذه الفاشية ما هو إلا ميكانيكية وسطحية في التحليل، لا بل هو خروج عن التحليل العلمي لهذه الظاهرة التي لا يمكن تفسيرها دون ربطها بسياق سياسي واقتصادي واجتماعي محدد، كما لا يمكن تفسير أي مادة تراثية دون مراعاة تلك السياقات وبتواريخها أيضاً، فكيف يمكن إرجاع ظاهرة معاصرة إلى ظاهرة تراثية تعود إلى عشرات القرون كلياً أو جزئياً؟! إن إصرار هذا «المثقف» على إخراج ظاهرة «داعش» من خرم التراث، ما هو إلا التزام بالفكر المثالي الرجعي وخروج عن الفكر المادي العلمي والتنويري.
البراءة من «داعش»
إن اتهام التراث بهذه المشكلة يخلق مشكلة أخطر، فهو يحرف الصراع على التراث عن مساره، فبدل أن يكون الصراع بين المنهج العلمي وبين المنهج اللا علمي على كيفية استعادة هذا التراث وتطويره لأجل اكتمال الهوية، يغدو الصراع مكرساً بين طرفين تجمعهما البراءة من «داعش»:
• فهذا المثقف الذي يتبرأ من «داعش» وكل ما يراه مرتبطاً بها تاريخياً وثقافياً يجهد للحصول على صك البراءة أمام معايير «العلمنة» الغربية، وبالتالي العمل على إعدام هذا التراث وضرب الهوية والتخلص من عبء وظيفته التاريخية.
• وأمام هؤلاء «المثقفين» ينبري آخرون بريء من «داعش» بالاكتفاء بالقول: «إن الدين برئ من هذه الظواهر» وإن كانوا على حق بذلك، إلا أن هذا التيار يعفي نفسه بهذه البراءة من السماح بالبحث العلمي بقضايا التراث، وبالتالي يفرض تراثاً محدداً وهوية محددة وليس العمل على إنتاجها.
إن الأخطر من كل ذلك، هو منح صك براءة للجهات السياسية والعالمية والشرائح الاجتماعية المسؤولة بشكل مباشر عن إنشاء هذه الظاهرة، فالفاشية ليست إلا ظاهرة من نواتج الإمبريالية وأزماتها، وما الرعب الوجودي الذي تملك الجميع بمن فيهم «المثقف» إلا الوظيفة الأساسية للفاشية، والتي فرضت التعاطي معها بذهنية محددة، حيث أفضى الرعب من هذه الظاهرة إلى أحاديث سياسية وثقافية متلفزة وحتى على شاشات معادية للهيمنة الأمريكية جهد متحدثوها لتبرير التحالف مع الأمريكي ضد «داعش».
لقد كشفت طريقة التعاطي مع ظاهرة داعش العديد من القضايا التي ينبغي حلها، فمن إشكالية عجز «المثقف» عن تفسير ظاهرة سياسية معاصرة اسمها «الفاشية الجديدة» ودخوله بدوامة الرعب أمام هذا العجز، إلى ردات فعله التي تنم عن امتثاله لهيمنة الثقافة الغربية، وصولاً إلى استنتاج مهمتنا التاريخية وهي ضرورة العمل في قضايا التراث لحسم العديد من المسائل الجوهرية في تكوين هويتنا الثقافية والحضارية.