احتقان شعبي ذو «طابع شخصي»
بمرفق يدها دفعت بعنف المرأة التي كانت تحاول منافستها على حجز مقعدٍ في الباص، صرخت بها غاضبة بسبابٍ غير مفهوم. السيدة التي نجحت في الجلوس هدأت الآن وأصبحت امرأة أخرى. أخرجت من حقيبتها قطع النقود الحجرية وأعطتها بلطف للشاب الجالس قبالتها كي يوصلها للسائق وهمست مبتسمة: «التعرفة لو سمحت». هو انقلاب يدفع المرء للسؤال: «كيف يمكن لامرأة أن تكون غاضبة هكذا وتصبح بلمح البصر لطيفة كما لو أن شيئاً لم يكن؟».
ذلك ربما سؤالٌ تصعب الإجابة عنه، لأن المرء اليوم أينما تلفّت يجد أناساً غاضبين يتشاجرون على مواقف الحافلات وطوابير الخبز والغاز، يتنافسون على وظائف العمل الشحيحة، يصرخون ببعضهم من أجل موتورات المياه ومولدات الكهرباء، كما لو أنها «فشّة خلق» جماعية على كامل أرض الوطن. الناس يتخاصمون ويحمّلون الآخرين مسؤوليات وأخطاء لا يتحملون وزرها فعلاً. حينما تنتظر على الموقف - بعد نهار عملٍ طويل «بساط الريح» الذي لا يأتي، يصعب عليك التفكير بعقلانية في الحرب وتأثيرها على أزمة المواصلات وازدحام الشوارع، أنت لا تلتقي مصادفة بأحد المسؤولين، لا تستطيع أن تصب جام غضبك عليه، أو تتركه في الشارع وتصعد أنت بدلاً منه لأنه ساهم في خلق الأزمة وعليه الانتظار.
«هدوء نسبي..!»
حينما يسافر أحد السوريين أو اللبنانيين إلى أوروبا أو أمريكا أول ما يلفت انتباهه، لطف الغرباء وابتساماتهم.. «إذا دست أنت على قدم أحدهم عن طريق الخطأ يعتذر هو بدلاً منك!» ذلك مثالٌ يكثر تكراره بين جموع المهاجرين. ربما يكون «ذاك الهدوء النسبي» مثاراً للاستغراب لأننا أبناء منطقة تعاني من «احتقانٍ شعبيّ حاد ومزمن» يترك ظله على كل تفاصيل الحياة، الاحتقان ذاته الذي كان أحد أسباب إنفجار الأزمة، ومازال اليوم يتراكم ويزداد بعد أن ضاعفت الحرب أسباب الشكوى، عدم الرضا، الشعور بالغبن، العجز، الغضب.
إذا ما حاول المرء تخيّل شكلٍ مادي ملموس «للاحتقان الشعبي» سيتصور سحابة قاتمة تلف المدينة، حناجر جافة، شرايين على وشك الانفجار، أسنانٌ تصطك، أعصاب مشدودة. لكن الأمر ليس ملموساً هكذا، بل هو أثرٌ في الهواء أمسى جزءاً من السلوك والمشاعر. ما زاد الوضع تعقيداً أن الحرب وكلما كانت تستعر أكثر كان الناس يفقدون يوماً بعد يوم منافذ التنفيس الطبيعية كالاحتفالات الشعبية والأعياد الوطنية. الحرب حرمتهم البحر وصالات السينما والحدائق العامة. حرمتهم المشي تحت المطر والابتسام للغرباء أو اللعب في الثلج حينما يطمئن المرء أنه سيعود إلى منزلٍ ومدفأة. الحرب حرمتهم أخذ نفسٍ عميق وتأمل وجوه من حولهم، والشعور بالسلوى ووحدة المصير والإنتماء وتشارك كل ما هو جميل.
«تقنين الغضب»!
في المقابل كان يمكن للغضب أن يصبح قوة محرّكة وأداة للرفض حين توجيهه لتحقيق مطالب محددة تفند أسباب الاحتقان أو تقدم حلولاً لها. ربما يكون هذا الجدوى الحقيقي من الحركات السياسية المنظمة والأحزاب: أن تقنن الغضب وترسم له مسيراً محدداً. أن توجه الغضب نحو من يستحقه فعلاً بدل أن يبقى هكذا، خبط عشواء، يتأجج في نفوس البشر في موقف الباص والشارع والسوق، وينسيهم أنهم وحينما يحتقنون يفعلون ذلك سوية، ولذلك يسمى «احتقان شعبي». هم متحدون ومتشابهون، حتى في اقتسام الغضب.