التاريخي والسياسي!
تعتبر طريقة قراءة التاريخ إحدى جوانب الحرب الإعلامية في إطار الحرب الشاملة الدائرة في عالم اليوم، بين الجديد والقديم، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين إبراز الجوانب النيّرة في التاريخ، أو التذكير بالصفحات القاتمة المصبوغة بالدم، بالتركيز على المشتركات بين الجنس البشري، أو التركيز على الأحداث الدامية التي شهدتها بعض مراحل التاريخ في إطار الصراع على الثروة والسلطة، التي قدمها لنا مزورو التاريخ على أنه صراع «حضاري» بين قوميات ومذاهب وأديان،
في التعاطي مع الشأن السياسي الراهن وضمن خريطة الدم في الشرق، يجري الحديث مجدداً عن حوادث تاريخية جرت ضمن ظروف تاريخية مختلفة، وفي ظل مستوى آخر من التطور التاريخي، ويتم توظيفها في الصراعات الراهنة، فـ«الفوالق» الطائفية هي امتداد لذلك الصراع الذي جرى قبل قرون، و«الفوالق» العرقية هي امتداد لصراعات سابقة ربما تعود لآلاف السنين. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك فيقدم ما يمكنه الحصول عليه مما يسميه وثائق، وما بقي من آثار، وما كتبه ما سمي بالمستشرقين، وما يتم تسريبه من حوادث واقعية أو مصنّعة في أرشيف هذه الدولة الاجنبية أو تلك، كل ذلك يتم عرضه في وسائل الإعلام، ليكون ساحة تجاذب أخرى تساهم في المزيد من التخندق، ولتكون مادة جديدة لدى أمراء الطوائف، وسدنة المعابد.
إن توظيف مثل هذه الحوادث التاريخية- الحقيقية أو المفبركة- في الصراع الدائر اليوم، إنما يهدف إلى المزيد من التشويه في الوعي الاجتماعي، وقولبته، وتنميطه، باتجاه المزيد من خلط الأوراق، والفوضى، وعرقلة أي خروج جمعي مجتمعي حقيقي ممكن عن نمط النهب والفساد الرأسمالي السائد، أي عرقلة الحلول الحقيقية للأزمات التي تعيشها دول ومجتمعات عديدة..
لاشك أن الحوادث التاريخية تشكل جزءاً من الوعي البشري، ولا يمكن إغفال تأثيرها في قراءة المشهد الراهن، ولكن هذه القراءة يمكن أن تأخذ أحد مسارين:
• إحياء الصفحات السوداء، التي كانت غالباً تعكس تاريخ النخب المستفيدة من هذه الصراعات المشوهة، ودفع الناس لبناء مواقف راهنة على أساسها.
• إبراز السبب الحقيقي لتلك الصراعات، وقراءتها ضمن شروطها التاريخية، والنتائج التي آلت إليها، مما يمنع تأثيرها في الظرف الراهن، لا بل يمكن أن تكون حافزاً إضافياً لمنع حدوث أي شكل من أشكال هذه الصراعات الملوثة.
فهل من حاجة للتأكيد على أن الخيار الثاني هو المطلوب..؟!