سور الأزبكية.. ما لا تجدونه إلا هنا

سور الأزبكية.. ما لا تجدونه إلا هنا

لـ«سور الأزبكية» في مدينة القاهرة، أشهر وأعرق سوق للكتب القديمة في المنطقة العربية، حكاية  أخرى، يمتد فيها حديث ترويه دفات الكتب القديمة بأوراقها الصفراء. المكان الذي يضم عشرات المكتبات المتخصصة ببيع وشراء الكتب المستعملة، ويشكل أحد معالم الذاكرة الثقافية  في مصر، تشعر هناك بمعنى الانتماء للمكان وأهله، لبساطة المظهر وعلو قيمة ما يقدمه للمتعطشين للمعرفة والإطلاع. بينما يقف السور نفسه شاهداً عليك كما كان شاهداً على تقلبات الدهر. 

عندما تدخل  هناك، تجد أكشاك الكتب واحدة تلو الأخرى في عشوائية تامة، وبالعشوائية نفسها يبحث المثقفون من محدودي الدخل عن الكتب التي يريدونها بداخل تلك الأكشاك، أو وسط إحدى «الفرشات» التي يفردها البائعون على الأرض في عشوائية تواكب عشوائية الأكشاك ذاتها.

يمتلك أصحاب المكتبات في السور، خبرة طويلة توارثوها غالباً عن آبائهم كما ورثوا معها قدرتهم على التعرف على الزبون الراغب المشتري الذي لا يفاصل في سعر الشراء، فالحكمة تقتضي أن الكتاب لا يقيم بثمن ويعرفون أيضاً بالخبرة من جاء يسعى للتجوّل والإمتاع. أما عن الطريقة التي يحصل بها أصحاب المكتبات على الكتب فهي كثيرة، تبدأ من بيوت العلماء الذين ماتوا، وأراد أبناؤهم التخلص من المكتبات وبيعها، فيذهبون إليهم ويشترونها منهم، إلى بعض الأشخاص الذين يبيعون  كتباً استغنوا عنها، أو الحصول عليها من مرتجعات المكتبات.

معرض الكتب الدائم

وللسور جمهوره الخاص، كلٌ يبحث بين رفوف الكتب عن ضالته، من الأدب إلى الفن والفلسفة والتاريخ وحتى المجهول،  فالباحثون عن الكتب القديمة التي لم تعد تطبع الآن ليس لهم إلا هذا السور، ففيه يتم بيع واستبدال وشراء أنواع الكتب كافة، فهو مستودع الكتب القديمة ومستقرها ومباعها، وهي في متناول يد الجميع لرخصها، وأهم ما يميز جمهور سور الأزبكية أنهم من محدودي الدخل، إلا أنهم يحبون القراءة ويعشقون الإطلاع، وهم في الغالب من طلبة الجامعات الذين يأتون إلى السور، فيحصلون على الكتب بأسعار رمزية، خاصة الكتب العلمية ذات السعر المرتفع ككتب الطب، والهندسة، والكيمياء، والرياضيات أما المدرسون والطلاب الصغار فكلٌ يبحث بين الكتب ما يلائم تخصصه.

وبين مرتادي السور مشاهير، مثل كامل زهيري، الذي ظل وفياً ومداوماً بالحضور حتى وافته المنية، ومنهم من بقي على المداومة والإطلالة، مثل جمال الغيطاني وحلمي النمنم، يأتون للبحث عن الكتب النادرة، وتُحجز لهم الكتب بعد توصيتهم، حتى لا تُباع لأحد.

يُعتبر سور الأزبكية معرضاً دائماً للكتاب، لأنه موجود طول الوقت، ويوجد فيه الكثير من العناوين، وما لا يوجد  في المكتبات أجده هنا، كما أن الأسعار متاحة للجميع.وكان الباعة قديماً يفترشون الأرصفة، أما الآن فقد خصصت لهم أكشاك ليبيعوا فيها كتبهم.

كيف نشأ سوق الأزبكية؟

ويعود تاريخ الأزبكية إلى سبعة قرون، حيث اقترن اسمها بالأمير عز الدين يزبك، قائد جيش السلطان قايتباي، الذي أسسها وجعلها حديقة للقاهرة، واحتفظ بداخلها ببركة الأزبكية وكانت مساحتها 60 فداناً، وقد أمر الخديوي إسماعيل بردمها 1864، حيث أقام على حوافها دار الأوبرا للاحتفال بملوك أوروبا القادمين لحضور حفل افتتاح قناة السويس، فيما أمر الخديوي إسماعيل المهندس الفرنسي ديشان مسؤول بساتين باريس، بإنشاء حديقة مساحتها 20 فداناً، وزوّدها بحوالي 2500 مصباح غاز.

وظلت حديقة الأزبكية ذات السور الحديدي قائمة، حتى تم هدم السور مع بداية ثورة يوليو 1952، وأتيح دخولها للجميع، وأبدل سور الحديدي بآخر حجري، وهي ما أقيم عليها عرض الكتب التي اشتهر باسمها.

كان باعة الكتب قديماً يطوفون بالكتب، ثم بدأوا يفترشون كتبهم شيئاً فشيئاً في ميدان العتبة، أحد أهم ميادين وسط القاهرة بالقرب من دار الأوبرا، وبمحاذاة حديقة الأزبكية، وبدأ البائعون يعرضون كتبهم بجانب السور منذ عام 1926، إلى أن تم في عام 1957 منح هؤلاء الباعة تراخيص مؤقتة لبيع الكتب وفي بداية التسعينيات نقلت أكشاك السور «المحلات الصغيرة المؤقتة» إلى منطقة الدراسة، ثم عادت الكتب مرة أخرى إلى منطقة الأزبكية عام 1998، بعد غياب خمس سنوات، وها هي تنقل مرة أخرى!

بدأ السوق بمجموعة من باعة الكتب القديمة، حيث كانوا يقومون بشرائها من أماكن مختلفة في درب الجماميز، وقد بدأوا عملية الشراء بالكتب الصغيرة، ويقومون ببيعها على مقاهي المثقفين مثل مقهى ريش، ومقهى الفيشاوي. أما في ساعة القيلولة، وحين تغلق المقاهي أبوابها، فكان هؤلاء الباعة يلجأون إلى ميدان الأوبرا للاستراحة، في ظل الأشجار التي كانت تملأ الميدان آنذاك، وأصبح شارع حمدي سيف النصر؛ الذي يفصل بين حديقة الأزبكية والأوبرا الملكية مكاناً لعرض بضاعتهم من الكتب، ينجذب إليه المارة فيتوقف بعضهم لشرائها. ومع الوقت استقر الباعة في المكان، وعلى الرغم من غرابة البداية، فإن السور أخذ في التطوّر، وعلى الرغم من ملاحقة السلطات لهم، لقربهم من الأوبرا الملكية، لدرجة أنهم سلّطوا عليهم خراطيم مياه سيارات الإطفاء، فإن الباعة تمسكوا بمكانهم إلى أن وافق رئيس الوزراء مصطفى النحاس، على بقاء السور، وتم الترخيص للباعة.

واستمر الوضع هكذا إلى أن منحت ثورة 1952، أكشاكاً ومكتبات لهؤلاء الباعة، وعند إنشاء كوبري الأزهر؛ تم نقلهم إلى شارع 26 يوليو، وعند تشييد مترو الأنفاق، تم نقلهم مؤقتاً إلى موقع قرب منطقة الأزهر، ومن ثم إعادتهم مرة أخرى إلى منطقة الأزبكية.