بانكسي في غزّة.. يعلن انحيازه للضعفاء

بانكسي في غزّة.. يعلن انحيازه للضعفاء

يختار بانكسي دائماً أماكن ومواضيع غير متوقعة. هذه المرة، جاءت المفاجأة من قلب قطاع غزة، بعدما نشر الرسام البريطاني مجهول الهوية شريط فيديو (1:55 د.)، عبر صفحته الرسميّة على «فايسبوك»، بعنوان «غزّة ترحّب بكم».

في بداية الشريط، يدعو بانكسي المشاهد إلى اكتشاف وجهة جديدة، بعيداً عن مسار الطرق السياحيّة المعهودة. يدخل أنفاقاً سرية تحت الأرض، ويجرّ المشاهدين في جولةٍ داخل القطاع المحاصر، حيث يلعب الأطفال بين أنقاض منازلهم المدمّرة.

يعتمد الفيديو أسلوب السخرية المرّة، في نقل مشاهدات الرسام. يكتب تعليقاً على الصور: «السكان المحليون يحبّون العيش هنا كثيراً، ولذلك لا يرحلون... أم ربما لأنّهم ممنوعون من المغادرة». تترافق مع التعليق السابق صورٌ لجنود الاحتلال المدجّجين بالسلاح. يكمل الشريط سخريته من الجدران الضخمة التي تحاصر القطاع من كل جهة، والقوارب الحربية المصوّبة نحوه من البحر: «القطاع محروس من قبل جيران ودودين. فرص التطور متاحة في كل مكان»، يكتب تعليقاً على لقطات بانوراميّة تبيّن حجم الدمار الفعلي الذي خلّفته الحرب الأخيرة.
يقدّم الفيديو ثلاثة أعمال جديدة لبانكسي، نفذها في أماكن مختلفة داخل غزّة. يصوّر أوّل تلك الأعمال شاباً فلسطينياً يغطّي وجهه بيديه، ويجلس بين الركام، فيما تصور اللوحة الثانية قطةً بيضاء كبيرة، حول رقبتها شريطٌ زهري، مربوط على شكل فلّة. فيما يجسد عمل بانكسي الأخير أطفالاً فلسطينيين يحوّلون برج المراقبة الإسرائيلي إلى أرجوحةٍ ضخمة.
هذه ليست المرّة الأولى التي يتطرّق فيها بانكسي للشأن الفلسطيني، إذ أنّه نفّذ في السابق رسوماً عدّة على جدار الفصل العنصري، أشهرها لطفلة يحملها بالون أحمر عالياً. لكنّ عمله الجديد يختلف عن مبادراته التضامنيّة السابقة. إذ أنّه لم يكتف هذه المرّة بأن يرسم عمله على جدارٍ، ثمّ يمضي، بل اهتم بالسياق كاملاً. صوّر لقطات بانورامية وواسعة لحجم الدمار، ووثق معنى العيش بين الأنقاض، وطغيان اللون الرمادي الذي ينسحب على كامل المشهد. فإيجاد جدار، باعتباره حاملاً للوحة، يمسي ترفاً في القطاع المهدّم. تم توظيف هذه الفكرة بذكاء في الشريط، بحيث بدت بيئة العمل التي تمّ تنفيذ الرسومات فيها، مختلفة تماماً عن الجدران النظيفة والمتسعة الملساء، والتي عادةً ما تحتضن أعمال بانكسي في المدن والعواصم الأوروبيّة والأميركيّة.
ومن جانبٍ آخر، اهتمّ بانكسي بالتركيّز على تفاعل الجمهور الفلسطيني مع الأعمال. نرى طفلاً يحاول أن يرفع يده الصغيرة، كي يلامس رسم القطة، ورجلاً يقول إنّ ضيفتهم الجديدة وجدت مكاناً للعب، بعكس الصغار الفلسطينيين. وبذلك تكتسب أعمال بانكسي الجديد بعداً ثالثاً، من خلال رصد التفاعل الحيّ من المتلقّين معها، وكيف تحوّلت إلى جزء من يوميّاتهم. كما أنّ الشريط يتسم برمزيةٍ عالية وظّفت جميع مفردات البيئة، بما فيها الرسومات والكتابات المعتادة على الجدران الفلسطينيّة، منها رسم لياسر عرفات... في حين تغيب الأعلام الإسرائيليّة عن المشهد بالكامل.
مع تزايد الضخّ الإعلامي في الأشهر الستّة الماضية، بغرض ربط مفهوم المقاومة بالإرهاب وتلميع صورة «إسرائيل» وتبرير ممارساتها، يكتسب توقيت ظهور الفيديو الجديد أهميّة خاصة. إذ أنّ بانكسي لم يترك الرسالة مفتوحة، كي يأولها المشاهد ويفهمها من تلقاء نفسه، كما يفعل في أعماله عادةً... بل اختار أن يعلن انحيازه بوضح وعلانية، وأن يسجّل على جدارٍ أبيض، بحروفٍ حمراء كتبت باللغة الإنكليزية الكلمات التالية: «إن غسلنا أيدينا من الصراع بين الأقوياء والضعفاء، نكون قد وقفنا في صف الأقوياء، ولم نعد محايدين».
وبالرغم من أن بانكسي لم يهاجم «إسرائيل» بصورة صارخة، إلا أنّ رسالته وصلت من خلال إشارتين: لقطة سريعة لجنود الاحتلال المدججين بالسلاح، ولقطة تظهر استهداف «إسرائيل» لبيوت المدنيين وتفجيرها. وكانت تلك الإشارات كافية كي يشنّ البعض حرباً على الرسام البريطاني على صفحته الرسمية على «فايسبوك» باعتباره يقف في صف «معاداة السامية» و «الإرهاب» ويروي الحكاية «من منظورٍ واحد». وفي المقابل كان هناك بعض المعجبين الذين هلّلوا للعمل الجديد وكتبوا عبارات تضامنية مع غزة وفلسطين. وبذلك يمكن القول أنّ عمل بانكسي الجديد، نجح في أن يكون جدلياً مرةً أخرى. إلا أنّه جدلٌ أكثر عمقاً وجذريّة، يختار فيه بانكسي أن ينحاز وبالمطلق للضعفاء.

  

المصدر: السفير