لعنة الزمن الصعب..
لأن اللحظات التاريخية والأحداث المستجدة عجولة، نافذة الصبر، لا تقف «مؤدبةً» في الطابور، تنتظر أن نفرغ من إحداها حتى تتقدم الأخرى، نحن مضطرون لأن نواجهها جميعاً، حتى حينما تأتي مندفعة نحونا، متشابكةً ككرةٍ من الأشواك. هي لا تعطينا الوقت الكافي كي نلتقط أنفاسنا، أو نأخذ لحظة للتأمل. تضعنا تحت ضغط الزمن، وتطلب منا أن نحدد في كل لحظة موقفاً من كل ما يحدث حولنا..
كان حكماء الصين القدماء، إذا ما أرادوا أن يصبوا لعناتهم على أحدٍ ما، يتمنون أن يولد ويعيش في زمانٍ صعب. في زمن تحولات. ونحن كذلك، أصابتنا لعنة الحكماء، بأن نكون أبناء زمنٍ صعب.
يحضر حديث اللعنات اليوم، بعد أن استدعته عبارات التململ، التي تطالعنا في مواقع التواصل الاجتماعي أو الأحاديث اليومية، كتلك التي تقول:«عذراً غزة، قلبي اليوم في حقل الشاعر. الحرب استنزفتنا ونحن متعبون». أو «داعش» و«إسرائيل»: «ضربتين على الراس بيوجعوا»!
بعيداً عن الانشغال في اللوم، أو تحديد أسبقية هذا الملف أو ذاك، لا بد من الاعتراف بأن نمط التفكير هذا، الذي بات سائداً اليوم عند البعض، هو حصيلة عدة سنوات من الشحن الذي مارسته وسائل الإعلام، وقادة الرأي، وشرائح المثقفين، الذين أعلنوا بدء أولمبياد، يتسابق فيه الجوع مع الكلمة، الداخل مع الخارج. تتنافس العواطف الحارة مع برودة الأفكار. وتتزاحم بلدان العالم لتحجز لها مكاناً في نشرة أخبار. وكما يحدث في معظم السباقات، بعد أن تعلن صفارة الحكم بدء المباراة، ينشغل المشاهدون في مراقبة عقارب الساعة. يراهنون على الرابح. قبل أن يسألوا إن كان السباق عادلاً أو متكافئاً. وإن كان الخصوم خصوماً حقاً. بحيث يصل الأمر ببعض السوريين اليوم، ليعتذروا من فلسطين متذرعين بثقل أزماتهم الداخلية، وضيق الوقت الذي يمنعهم من الاهتمام بما يجري في غزة المحاصرة..
ربما كان على القوى التي أرادت توجيه أذهان الشعوب نحو اختلاق مسابقاتٍ مماثلة، كي لا يفطن المشجعون، في حمى حماسهم، إلى أن الحروب جميعها هي حربٌ واحدةٌ متعددة الجبهات. وأن المرء، إذا ما حاول سحب أحد الملفات التي تستوجب الحل من خزانة الملفات العالمية المزدحمة، ستسقط فوق رأسه جميع الكراسات والأوراق؛ إذ كيف يمكن اليوم، مثلاً، التصدي لـ«داعش»، دون ضرب حلفائها وعرّابيها؟ كيف يمكن معادة «إسرائيل» والتسامح مع الفاسدين وتجار الحروب؟ وهل يمكن لأحد أن يرفع شعارات ومطالب ديمقراطية؟ أم بات ذلك «ترفاً» أمام مشاهد آلاف الأفواه الجائعة؟!
ولهذا، ربما، نحن أبناء الزمن الصعب؛ ليس فقط لأننا اضطررنا أن نواجه مشكلات فاقت قدرتنا على الاحتمال، بل لأننا اضطررنا لأن نواجهها جميعاً ككتلة متشابكة الخيوط. نحن أبناء الزمن الصعب، لأننا لا نملك خيارات التأجيل أو المراوغة. ولأنه كان لزاماً علينا أن نفكر في حلولٍ جذرية، في كوكبٍ لم تعد تجدي معه الرُقَع والإسعافات الأولية. نحن أبناء الزمن الصعب، لأننا متعبون، ولكننا لا نملك خياراً سوى إكمال المسير..