بيروت تتذكّر الكاتبة المصريّة... رضوى في البال!
رضوى عاشور تعرف بيروت، وبيروت تعرفها أديبة وعاشقة وشاهدة للحقّ… صاحبة «ثلاثيّة غرناطة» التي سرقها الموت مبكراً، سيحوم طيفها الليلة حول قصر الأونيسكو، حيث يكرّمها «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» بمشاركة كتاب ونقّاد بارزين، وحضور رفيق دربها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي.
يكرّم «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» اليوم الروائية والناقدة الأدبية الراحلة رضوى عاشور (1946ــــ2014) التي كافحت على كل الجبهات، وأخلصت لأفكار التحرر والمقاومة والنضال وفلسطين، وارتكزت أعمالها إلى تلك الثوابت. اللقاء الذي يقام في «قصر الأونيسكو» في بيروت (قاعة أنطوان حرب) يشارك فيه زوجها الشاعر مريد البرغوثي، والناقدة اللبنانية يمنى العيد، والمؤرخة الفلسطينية بيان نويهض الحوت، والأكاديمي اللبناني لطيف زيتوني، والاقتصادية والسياسية الأردنية ريما خلف، والكاتبة الفلسطينية جين سعيد المقدسي، على أن تتولّى الباحثة والناقدة اللبنانية رفيف رضا صيداوي مهمّة التقديم.
«عودي يا ضحكتها، عودي». كان هذا آخر ما كتبه مريد البرغوثي (1944) على تويتر في وداع زوجته. لقاؤهما الأول كان على سلم «جامعة القاهرة»، فقد كانت عاشور تلميذة نجيبة تحمل بين ذراعيها كتباً ومجلات ثقافية وكانت تدرس الأدب الإنكليزي. كلمات مريد البرغوثي وأشعاره اخترقت تلك الغلالة الرقيقة من الشفافية والرُقي في حياتها. إنها قصة حب دامت لأكثر من 45 عاماً كان قوامها الوفاق والمحبّة والنضال على طريق الحرية وفلسطين.
في كلمته الأخيرة في مدرج كلية الآداب في «جامعة عين شمس» في أربعين الراحلة، قال الزوج: «افتحوا الأبواب لتدخل السيدة. من ينشغل بحزنه على فقد المحبوب، ينشغل عن المحبوب. الآن أطلب من حزني أن يتجه إلى أقرب بوابة ويغادر هادئاً كما أشاء أو هادراً كما يشاء، لكن من دون أن يلفت الأنظار. لا يعجبني جوعه ولا تلكؤه. أكاد أكرهه تحديداً لهذا السبب، كأنه حزن لا يثق بنفسه، كأنه إن اكتفى اختفى، كأننا لم نشاركه مقعده ومخدته ومنديله وملمس حذائه على زجاج ساعاتنا». لم تكن تلك المرة الأولى التي يتحدث فيها مريد عن رضوى، فقد كتب فيها قصيدة بعنوان «رضوى» في السبعينيات، ونشرت على 3 أجزاء في مجلة «الكاتب». يومها، قالت الكاتبة والناقدة لطيفة الزيات عن القصيدة: «إننا قرأنا في الشعر القديم قصائد غزل لكننا لم نقرأ قصائد حب»، فعلّق البرغوثي على ذلك بالقول: «الناس تظن أن الكلام العسلي اللطيف يساوي شاعر حب. الكلام الحلو وحده ما يعملش ما نسميه الشعر». كانت تلك القصيدة من أبرز الأعمال التي توّثق لعلاقة الحب بينهما. لكن يبدو أن المشاكل لا تنتهي. كان موقف الأهل من الزواج واضحاً، وهو الرفض التام. لا ينبغي أن تربط فتاة كرضوى مستقبلها الأسري والتعليمي بشاب فلسطيني يطارده الشتات طوال الوقت. كتب البرغوثي قصيدته بشغف ورقة قال فيها: «على نَوْلِها في مساءِ البلادْ/ تحاول رضوى نسيجاً/ وفي بالها كلُّ لونٍ بهيجٍ/ وفي بالها أُمّة طال فيها الحِدادْ/ على نَوْلِها في مساءِ البلادْ/ وفي بالها أزرقٌ لهَبِيُّ الحوافِّ/ وما يمزج البرتقال الغروبيّ بالتركواز الكريمِ/ وفي بالها وردةٌ تستطيع الكلامَ عن الأرجوان الجريحِ/ وفي بالها أبيضٌ أبيضٌ كحنان الضمادْ...».
لكن الزواج تمّ لتبدأ رحلة على درب الثورة والأحلام المنكسرة، والأسرة والابن الشاعر تميم. أُبعد مريد البرغوثي عن مصر خلال فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات بسبب موقفه الواضح الرافض لزيارة الأخير إسرائيل. ظلّ البرغوثي بعيداً من مصر 17 عاماً، يتنقل من منفى إلى آخر. كان بديهياً بالتالي أن يكون عنوان إحدى مجموعاته الشعرية «طال الشتات». لكن عاشور ظلّت متماسكة، تحدّت الظروف والعقبات. عمليات جراحية متتالية، كانت تخضع لها. آلام متكررة وأورام، وعمليات في الدماغ الذي لم يتحمل المزيد من الألم. بعدها، فارقت الحياة وتركت وراءها ثلاثيتها الجميلة «غرناطة» وشاعرين شاءت لهما الظروف أن يفقدا مفتاح الأندلس من جديد. لخص مريد حياتها خلال تأبين «جامعة عين شمس» بالقول: «هي التي جعلت من هشاشتها اسماً آخر للصلابة. علمت الديكتاتور كيف ترفض انتباهه المشبوه لقيمتها، وفي سلة مهملات واسعة قرب حذائها الصغير (نمرته خمس وثلاثون) ترمي المناصب السمينة المعروضة والألقاب الرفيعة المقترحة ودعوات الحظيرة/ القصر التي يهرول إليها سواها، مكتفية بفرح القارئ ببرق السطور من يدها، وفرح الطالب ببرق المعرفة من عينيها، هي الأستاذة صوتها ينادي أصوات طلابها لا آذانهم، لأن صوتها يُسمع ويَسمع. ولأنها لم تسع إلى أي ضوء، غدت بذاتها ضوءاً في عتمة البلاد، وضوءاً بين أغلفة الكتب وضوءاً من أضواء اللغة العربية التي هي البطل الدائم والأول في رواياتها».
أما تميم الابن كان الأكثر تعلقاً بوالدته. كتب فيها: «قالولي بتحب مصر قولت مش عارف، لكني عارفي إني ابن رضوى عاشور/ أمي اللي حملها ما يتحسب بشهور/ الحب في قلبها والحرب خيط مضفور». بعد والده المتواصل عن البيت، جعل من والدته ملاذاً في الضيق والشدائد. يظلّ مشهد الجنازة من أكثر المشاهد المهيبة التي تجسد هذا التوحد بين الابن والفقيدة. وضع تميم رأسه على نعشها من دون أن ينبس بكلمة واحدة. رضوى كانت أشبه بعمود الخيمة، الوتد الذي يحمل عماد أسرة ووطن. في جنازتها، حضر الجميع من الأهل والأصدقاء. حضرت نوارة نجم، وعبد المنعم أبو الفتوح، وهشام أصلان وعماد أبو غازي، ومحمد أبو الغار الذي صدّر مقاله عنها في «الأهرام» بعنوان «رحلت الجوهرة رضوى عاشور». ظلّت أيقونة تشع نوراً وأملاً في حياة كل من عرفوها. كانت دائماً في أول صفوف الثورة، وحركة استقلال الجامعات (9 مارس 2003) من خلال مسيرات قادتها بنفسها ضد قمع وظلم مبارك في حق الطلبة والجامعات المصرية، كما أثرت بعملها في الحياة الأكاديمية والثقافية من خلال أعمالها أبرزها «ثلاثية غرناطة»، و»أطياف»، و»الطنطورية»، و»تقارير السيدة راء»، و»سراج»، و«فرج». كما دوّنت سيرتها الذاتية قبل رحيلها ضمن كتاب «أثقل من رضوى» (مقاطع من سيرة ذاتية ـ دار الشروق 2014).
المصدر: الأخبار