درس من التاريخ..
علي سعيد علي سعيد

درس من التاريخ..

لدى سؤال قاسيون للباحث الأستاذ زهير ناجي عن طريقة تناوله الأحداث التاريخية، أجاب: يوجد دائماً عنصران أساسيان في ما أتناوله تحت عنوان قراءات تاريخية الأول هو الحدث التاريخي نفسه، والثاني هو قراءة الحدث أو تفسيره و ما يمكن استنتاجه منه وتختلف وجهات نظر القارئ تبعاً للإيديولوجية التي يحملها والهدف الذي يرمي إليه، وأخيراً العبرة التي يريد إيصالها للقراء..

وكمثال سأعرض حدثاً تاريخياً ذا صفة شخصية، ولكن ما يهم هو دلالاته السياسية والفكرية.. 

فقد حدثني والدي المعلم الذي نشأ وتلقى دراسته في عاصمة السلطنة العثمانية  وتخرج لاحقاً من دار المعلمين في بيروت عام1911 ليعلم في ولاية بيروت آنذاك، أنه  سيق في الحرب العالمية الأولى كضابط احتياط ليحارب مع الجيش العثماني الأول في شرقي الأناضول، وبعد نقل الفرق العربية في عام 1915 لتحارب في جبهات البلقان والدردنيل، سيقت فرقته إلى الحجاز، وعسكرت في المدينة المنورة في بداية عام 1916 وكان من المقرر توجيهها قبل نشوب الثورة العربية الكبرى في إطار استراتيجية ألمانية للوصول إلى شرقي أفريقيا لمحاربة الإنكليز.

كنا نعرف سلفاً أن هذه الدولة آيلة للسقوط وأن أملها للنجاة متوقف على انتصار الرأسمالية الألمانية وإمبراطورها الطموح.. ولكننا لسنا موافقين على الاستعانة بالغرب الاستعماري لتخليصنا من دولة رجل أوربا المريض، وكنا ننظر بشك إلى أولئك القادة الذين ذهبوا إلى مؤتمر باريز العربي عام 1913 لإيمانهم بأن الخلاص سيكون على يد الإمبرياليين... فالعودة إلى الإيمان لا تكون عن طريق الاستعانة بالشيطان، وهذه الدولة مهما كانت مهترئة وفاسدة وضعيفة فهي دولتنا وما يجمعنا بها أكثر مما يفرقنا.. وستظل أرحم بكثير من تلك الدول الإمبريالية. 

وفي إحدى المرات كنا مجموعة من ضباط الاحتياط والموظفين العرب متحلقين في المسجد النبوي الكريم نتسامر، حين وقف على رأسنا أحد المثقفين العرب المشبوهين والمعروفين بعمالتهم،واتجاهاتهم، الموالية للقوى الغربية.. أخذ هذا السيد يثبط عزائمنا ويعدد مساوئ هذه الدولة ومظالمها وضرورة الثورة عليها والتخلص منها بمعاونة الإنكليز.. لندخل في جنتهم التي صنعوها في مصر والسودان والهند – حسب رأيه- واحتدم النقاش فيما بيننا...

 كنا نعرف كل المفاسد والأسواء التي تتمرغ بها الطبقات الحاكمة في الوطن العربي ونطالب بإزالتها ليتمكن الشعب من الصمود وإفشال المخططات الإمبريالية والصهيونية.. وكنت أشدهم مدافعة عن الدولة، لا حباً بها وإنما إدراكاً لأن خطرها مهما كان كبيراً فسيظل أقل خطراً من المطامع الإمبريالية والصهيونية.. 

لم نكن جاهلين آنذاك لما يجري في العالم من فجور استعماري ومن استباحة لثروات الشعوب ولأراضيها.. كانت استانبول في ذلك الوقت عاصمة تضج بالأفكار من كل نوع.. وكنا نتابع النقاشات الحامية التي كانت تجري في مجلس المبعوثان وتحذيرات النواب العرب وغير العرب والمثقفين العرب الموجودين في عاصمة الخلافة من خطر الأطماع الامبريالية والصهيونية وتلاعبها بالدولة، وتكالبها عليها ومن عواقب سياساتها الداخلية والخارجية.. وكنا نقرأ عن حركات التحرر القومية ونعرف أشياء كثيرة عن الاشتراكية الأوربية وحركاتها وعن الفوضوية والعدمية وكنت استمع إلى النقاشات السياسية التي كان أغلبها يحذر من انهيار الدولة وينادي بإصلاح أحوالها لتتمكن من الوقوف على قدميها وأن تنصف كل القوميات والشعوب القاطنة فيها.. لأن الإصلاح ودرء المفاسد كان السبيل الوحيد إلى بقاء الدولة، كما هو الحال في الوطن العربي فلن تعيش دولة إذا كان الظلم ديدنها وإفقار الناس نهجها واستعداء العدو الإمبريالي على أرضها.. 

فلا سبيل إلى إنقاذ أمتنا وحضارتنا وتاريخنا وإنقاذ الشعوب والأمم، إلا بدرء المفاسد ورفع الظلم والتخلي عن الاستئثار بالسلطة وإفقار الناس ونهبهم وتجويعهم واضطهادهم ودفعهم للهجرة والكف عن إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية والإثنية والطبقية والكف عن تهريب الثروات المنهوبة ووضعها في البنوك الرأسمالية والإستقواء بأعداء الشعوب ...

ولما اشتد لجاجي مع ذلك المشبوه، ورأى تأييد الآخرين لوجهة نظري أنهى جولته البروباغندية منسحباً من الحلقة صاباً جام غضبه علي قائلاً: «الظاهر أن تركياً غشوماً قد فعل بأمك كذا وكذا فأنجبتك.. وستنال نصيبك آجلاً أم  عاجلاً».

وانتهت الحرب ولم أكن وحدي الذي نال نصيبه .. لقد نلنا نصيبنا جميعاً تقسيماً وإذلالاً واستعماراً مقيتاً وزرع شذاذ آفاق في قلب وطننا وفي أقدس رقعة منه.

وللحديث بقية....