الوجه مفتاح الحضور
نديم جرجوره نديم جرجوره

الوجه مفتاح الحضور

 إذًا، تُغادر فاتن حمامة الحياة في مسار طبيعي لغياب أناس متشابهين في كونهم عنواناً لزمن آيل إلى الأفول، بل لزمن أفل منذ وقت، وموت أناس كهؤلاء تأكيد دائم على نهايته. تُغادر فاتن حمامة بصمت، كذاك الذي يُغلّف حياتها منذ مطلع تسعينيات القرن المنصرم. صمتٌ مشوبٌ بسرّية عيش، وعزلة إقامة داخل أسوار منيعة تُحصّن امرأة وحكاياتها. صمتٌ مُقامٌ في متاهات الانفصال التام عن صخبٍ تُدار به يوميات، وتُحاك عليه نبرات، وتُرسم به ملامح نمط نجوميّ لعيش يوميّ.

تُغادر فاتن حمامة الحياة، مع أن للأولى في الثانية أجمل أوقات، ومع أن الثانية تتغذّى دائمًا من حضور الأولى فيها. لذا، مع اللحظة الأخيرة للحياة، تُصبح استعادة الزمن الماضي للراحل أشبه برحلة محفوفة بألف خطر، لشدّة التنوّع الخصب لذاك الزمن، وثرائه العميق في شتّى مقوّمات الحياة. استعادة سيرة فاتن حمامة وزمنهما معًا تدريبٌ على الغرق في أبهى جمال، والخروج منه بأقلّ الخسائر، إن أمكن. فالزمن مُلغى في حاضر ميؤوس من الخلاص منه. والسيرة عنوانٌ لبراءة صناعة التاريخ، ولخبث الانغماس في متعة كتابته. وفاتن حمامة امرأة تضع أنوثتها في لقطات كي تلتقط أنفاس جماعات متلهّفة لضوء شاشة، وتُشعل قلوبًا متيّمة ببراءة مخادعة أو معشوقة أو مطلوبة، وتُلهب خيالًا يتوق إلى رومانسية اللحظة، كتوقه إلى إحداث انقلابات حالمة على واقع حيّ وقاس.

وداعاً
تُغادر فاتن حمامة. المغادرة طبيعية. امرأة في العام الرابع بعد الثمانين تُصبح والموت رفيقين طيبين، وإن يرفض المرءُ الموتَ، فرفضه جزءٌ من فعل ممانعة تقول رغبة في تطويع الموت قبل الخضوع له. ألم يكتب نزار قبّاني ما يُعتَبر إحدى أجمل الصُوَر الحسّية عن العلاقة الملتبسة بين المرء والموت، عند رثائه ناديا تويني: «كان يفتحُ البابَ عليها، فإذا وجدها تكتبُ شعرًا، اختجل من نفسه، وانسحب على أطراف أصابعه»؟ ألا يُمكن التلاعب قليلًا بالكلمات، كي يُقال في «رثاء» فاتن حمامة إن الموت يفتح الباب عليها دائمًا، فإذا رآها تمارس عيشها بسكينة وصمت وهدوء وجمال يُشبه بهاء الدنيا في ذروة انتشائها بالحياة، يتسلّل على أطراف أصابعه ويُغادر، ولو إلى حين؟ ألا يُمكن القول إن الموت يريد هو أيضًا المغادرة لاستراحة ما، فبعد تعبه من فشله في اقتناص فرصة الانقضاض عليها، يكسر قواعده فيتلقّفها في لحظة، ويغيب معها إلى ما لا أحد يعرف كُنهه؟ ألا يُمكن القول إن أربعة وثمانين عاماً كافية لتُطلّ السيّدة على العالم، بخَفَر معهود لها، وبنظرة مليئة باختزال الدنيا والحياة، وبشفافية تقتل كل حقد وتوتر، وتقول بصمت: وداعًا؟
قدر الكبار أن يموتوا هم أيضًا. لا خلود لهم وإن يتركوا وراءهم ما يُذكّر بعبورهم هنا أو هناك. قدر الكبار أن يغادروا هم أيضًا. لا أعمالهم تُنجّيهم من الموت، ولا صُوَرهم التي تُغذّي الحياة بهم قادرة على إنقاذهم من تلك اللحظة. قدر فاتن حمامة أن تقول كلمة أخيرة، فتذهب من دون أن تلتفت إلى وراء يُعلن لها حبًّا ووفاءً ورغبةً في بعض وقت إضافي معها وإن بصمتها، قبل أن يغرق الجميع في جنون العالم، وانكساراته وخيباته ودماره. 97 فيلمًا سينمائيًّا بين العامين 1940 و1993 لن تشفع بها للبقاء هنا الآن. النهاية واضحة. الموت حاضرٌ. العناوين باقية. المرأة الممثلة غائبة. يردّ وودي آلن على من يرغب في مواساته بالقول إنه كسينمائي سيبقى خالدًا في أعماله: «أفضّل أن أبقى حيًّا في غرفتي». لن أُسقِط على فاتن حمامة أقوالًا أو سلوكًا، لكني أميلُ إلى شعور يقودني إلى أيامها المديدة في ظلّ عزلة لم تخرج منها إلاّ لمامًا. شعور يقودني إلى ذاتها وأسئلتها. شعور يقودني إلى ليلها وأحلامها، هي التي تُنهي سيرتها السينمائية بـ «أرض الأحلام» لداود عبد السيد: «أصحيحٌ أني سأكون خالدة في أعمالي؟ أم البقاء حيّة في غرفتي أفضل وأجمل؟».
براءتها الشديدة في شخصياتها السينمائية دافعٌ إلى التساؤل عن قوّة هذه البراءة في شخصيتها الحقيقية. لديها سلطة، ومن يمتلك سلطة تُصبح البراءة خداعًا قد يكون جميلًا. لكن فاتن حمامة بريئة الوجه والتصرّف والعيش في أفلام تُعيد صوغ الحياة وجوهرها، وتُفكِّك العيش وفضاءاته. بريئة صاحبة سلطة، وسيّدة لها عفوية القادر على امتلاك الدنيا، والتلاعب بها. ألم «تُسعد أجيالًا» بأدوار «عرفت كيف تكسر القيود، وتأخذ دورها في المجتمع»، بحسب رفيق خوري في «ليلة القبض على فاتن حمامة» («الأنوار»، 2 شباط 2001)؟ أم أن التلاعب منبثقٌ من ازدواجية عيشها بين شاشة وواقع، فإذا بعيشها في الشاشة أقدر على صُنع معجزات التمرّد والبقاء والفوز من عيشها في الواقع؟ ألم تُسرف في تقديم أداء متشابه، وفي تمثيل شخصيات يكاد يصعب على المرء التمييز بينها، وإن كان التمييز مرتبطًا أكثر بمخرجين وأساليب اشتغالاتهم، وبمواضيع وآليات معالجاتها الدرامية والجمالية، وبمناخات وأدوات التعبير عنها؟ أم في كلامي هذا مبالغةٌ في حضرة الموت؟
تستحيل الإجابة الواضحة. فاتن حمامة أكبر من أن تُختزل في مقولة، وأجمل من أن تُترك «فريسة» للنقد. بقاؤها في إطار أسطورة ما أفضل من إنزالها إلى جحيم الكتابات والتعليقات. أفلامها مُتاحة لمُشاهدات متكرّرة، وإن قيل فيها (الأفلام والمُشاهدات معًا) كثيرٌ من الكلام والتعليق. حكاياتها المعروفة مُلكٌ للناس، وغير المعروفة مُلكٌ لها. سيرتها الحياتية مثيرة للتنقيب عن مسار تاريخ وبيئة وإبداع ونجومية، وصناعة صورة ونجم أيضًا. سيرتها السينمائية جزءٌ من حكاية طويلة. سيرتها هذه، وإن تُخضع دائمًا لنقاش وتحليل، ستبقى أهمّ من أن تُلفَظ بها وعنها أقوالٌ وكتابات. يروي داود عبد السيّد أن فاتن حمامة، بعد تمثيلها في «يوم مرّ ويوم حلو» (1988) لخيري بشارة الذي يُستقبل جيدًا حينها، تُبدي رغبتها في العمل مع مخرجي جيله. يُضيف أنها، إثر مشاهدتها فيلمه «الكيت كات» (1991)، تُعلن رغبتها في العمل معه: «الأمر الذي اعتبرْتُهُ فرصةً ذهبيةً ليس لعمل فيلم، بل لعمل فيلم مع فاتن حمامة». يقول إنه حاول العثور على موضوع مناسب لها، لكنها ترفض الاقتراحات كلّها: «لا ألومها على ذلك. لكن، من الواضح أني كنتُ أكثر جموحًا بكثير من الصورة التي تُحبّ أن تحافظ عليها أمام جمهورها» («داود عبد السيّد، محاورات»، أحمد شوقي، «الجمعية المصرية لكتّاب ونقّاد السينما»، 2014).
صورة
صورة لها أمام جمهورها؟ عند زيارتها بيروت في العام 2001 بدعوة من «مؤسّسة الحريري للمرأة العربية» بهدف تكريمها (وكانت يومها في الـ 71 من عمرها)، تُصرّ المرأة ـ الممثلة على الابتعاد كلّيًّا عن كاميرات المُصوّرين الفوتوغرافيين والتلفزيونيين. صورة لها أمام جمهورها؟ تريد صورة قديمة لا جديدة. صورة بالمعنيين المباشر والرمزي. صورة تقول تاريخها لا حاضرها. صورة منبثقة من ماضيها إلى مستقبل لها يتجاوز موتها. صورة تليق بها سيّدةً موضوعة على عرش «الشاشة العربية». صورة تبوح بمكنونات ذاتية تصنعها فيلمًا بعد فيلم، وتضعها في شخصية تلو أخرى. صورة تقول إن فاتن حمامة ترفض المثول أمام غيرها، كي لا تتشوّه صورتها الأصلية بامتداداتها الحياتية والإنسانية واليومية. صورة لها أمام جمهورها؟ أهي تلك الصورة المحتضنة ذاك الوجه، الموصوف بكلمات جميلة يسوقها هنري بركات في قولٍ له عنها: «وجهها هو الشعر، هو الموسيقى، لا مثيل له ولا بديل عنه للتعبير عن معانٍ أبغيها»؟ أليس هذا الوجه/ الصورة تأكيدٌ على خصوصية تريدها فاتن حمامة لها، أما للآخرين فلهم ما تبتغيه هي والمشاركون في صناعة صورتها؟
سيُقال الكثير عنها، الآن في رحيلها وغدًا في شتّى أمور اشتغالاتها ومسالك حياتها. غير أن ما يقوله صالح جودت عنها مثيرٌ للتساؤل عن ماهية المغادرة ونمطها، إذ يصفها بأنها تبقى «وسط هذا الزحام لامعة دائمًا، برّاقة بريقًا يأخذ بالقلوب والألباب، حتى يُخيّل إليّ أنها لا تستطيع السقوط». لكن، أليس الموت سقوطًا من الحياة، وإن تبقى الأعمال امتدادًا لصورة مطلوبة من صاحبتها، كما من مريدي اشتغالاتها؟

المصدر: السفير