الصراخ المباح
في الباص ظنّ بأنه لن يصمد بعد، سيموت اختناقاً. هذا ما قاله لنفسه، بينما كان محشوراً ضمن كتلةٍ من الأجساد البشرية المتعرّقة المتعبة. وبالرغم من أنه يخوض كل يوم، مثل 90% من سكان مدينته، الحرب ذاتها مع ازدحام المواصلات، بحيث يجب أن يكون اعتادها الآن، إلا أنه لا يعتادها. في أيامٍ محددةٍ يفقد صبره، ويصعد إلى الباص كما لو أنه سائحٌ يتعرف للمرة الأولى كيف يمكن لعشرات البؤساء المحظوظين أن يحشروا في مستطيلٍ متحركٍ كهذا، فيما يشوّى من لم يحالفه الحظ بنار الشمس على الرصيف.
في البيت تجنب أن يضع يده في جيب بنطاله، هو يعلم مسبقاً أنه قضى على الجزء الأكبر من راتبه، في الأسبوع الأول من الشهر. دفنه في الخزانة دون أن يعلقه. ما فائدة أن يكون البنطال مطوياً والجيبة فارغة. هو يشعر بأنه يمشي عرياناً على أية حال.
في السرير نام نوماً مضطرباً، في السابق كانت تزوره أحلامٌ جميلة مشوشة، وإن كانت خاطفةً، كما لو أنها صفقة دنيوية لإبقائه على حافة التوازن، دون أن يفقد أعصابه تماماً. إن كانت الحياة تظلمه أثناء النهار، كان الليل ينصفه. يمكن له أن يشرب كأساً من الشاي على شرفة غرفته الصغيرة، ويتأمل النجوم، إذ أنها ما تزال مشاعاً، ملكيةً عامة، لم تخصص. كان بعد ذلك يغرق في بحرٍ من الأغطية البيضاء المغلية، وينام عميقاً حتى الصباح. لكنه الآن لا يستطيع حتى التنفس، يتساءل أين ذهب كل هذا الهواء؟ ولماذا يتابع في أحلامه مسلسل النهار ذاته: قذائفٌ تسقط على مرأى منه، سكينٌ كبير في يد رجل يلاحقه، ضياعٌ في حاراتٍ دون مخارج وبيوتٌ دون أبواب.
في الطريق، تجنّب بائع الصحف، وصوت مذياع الجارة، ولوحات الإعلانات. غيّر طريقه كي لا يلتقي بائع الخضار، أبو الشهيد. لا حاجة له بقراءة الجرائد، ومعرفة ما يجري في البلاد. إن كان هو ذاته «ما يجري في البلاد»، هو وحياته وبلاده، الخبر الرئيسي في نشرة الأخبار.
في العمل تجنّب أن يفتح أي حديث سياسي مع زملائه، كما لو أن عدم المبالاة، والخوف، استوطنا قلوب الناس من جديد. كانت الكلمات تصل إلى فوهة فمه، لكنه يبتلعها برشفةٍ من القهوة. الموظفون حوله خجالى من الكلام، كما لو أن الاعتراض على ما جرى ويجري هو الذي فتح أبواب جهنّم. يمر بباب مكتبهم المدير العام الذي ترقّى بدلاً من أن يسجن، تتلاقى العيون، وتعلق الكلمات في الأفواه. يفرغ الموظفون ما تبقى في فناجين قهوتهم.
كلما فكر بأن الحال لا يمكن أن يضيق أكثر، يضيق. وأن البال لا يمكن أن يطول أكثر، يطول.. كان يقول في سرّه: «رح طق من القهر»، إلا أنه لم «يطق» مرةً واحدة، وبقي قادراً على الوقوف مستنداً على عظامٍ قويةٍ لم يكسرها الضيق.. علمته البلاد أن للناس طاقة احتمالٍ عجيبة في الأزمات، وأنهم قادرون على إعادة تدوير الصبر مرةً بعد مرة، بعد مرة.
في هذا المساء بالتحديد، كان يجلس أمام التلفاز. هي فرصة نادرة لإقفال قلبه وأفكاره، والتركيز فقط على ما يجري أمامه في الشاشة الصغيرة، كان يتحرك على كرسيه. يرفع يديه ويصرخ بأعلى صوته مسمراً أمام الشاشة، هي فرصةٌ للصراخ المباح، لن تتكرر قبل أربع سنواتٍ قادمة، من الأفضل أن يستغلها. سيشعر بالراحة لو للحظات، وسيفرح صنّاع القرار في بلاده، كما في معظم بلدان العالم، لأنهم أخذوا إجازة من القلق من عواقب القهر الذي يعتمر في الصدور. «غووول غوول» يصرخ، ويتردد النداء ذاته في منازل الحي والمقهى القريب وبيت الجارة «غوووول»..