شارع المتنبي مناخ للحرية.. ولكن!
د. علي حسون لعيبي د. علي حسون لعيبي

شارع المتنبي مناخ للحرية.. ولكن!

كل يوم جمعة مئات من المثقفين العراقيين، أدباء وكتاب وفنانين وصحفيين واعلاميين وسياسيين كبارا وصغارا يتوجهون الى هذا الصرح الثقافي الكبير يستعرضون نتاجاتهم الابداعية، ويتبادلون الرؤى والأفكار. قاعات وساحات تعج بنشاطات واسعة للمواقع والصفحات الثقافية وبعض من المؤسسات الاعلامية.

هذا الشارع العتيد الممتد لتاريخ بعيد من ساعة القشلة الى قاعات المحكمة الكبرى التي شهدت اشهر المحاكمات السياسية في العراق، وأقدم دور للنشر وباعة أرصفة للكتب التي تنتشر على طول الشارع وصولا الى نصب الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي الذي يطل على دجلة الخير وهو يمر بلا تردد يقطع بغداد بكرخها ورصافتها محملا بالخير والمحبة وطيور النورس التي تحلق على شواطئه.

تعرض شارع المتنبي كغيره من مناطق بغداد والعراق لعدة تفجيرات خلال فترة عدم الاستقرار الأمني بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003. إلا أنه تعرض في 5 مارس/آذار 2007، إلى هجوم بسيارة ملغمة أدى لمقتل ما لا يقل عن 30 متسوقاً وتدمير العديد من المكتبات والمباني. حيث تم تدمير "المكتبة العصرية" بشكل كامل، وهي أقدم مكتبة في الشارع تأسست عام 1908. كما دُمرت مقهى الشابندر الذي يعد من معالم بغداد العريقة. إضافة إلى تدمير واحتراق العديد من المكتبات والمطابع والمباني البغدادية الأثرية في الشارع. لكن سرعان ما عادت له الحياة بفعل إصرار المثقفين أن يستمر هذا النسغ الثقافي المهم.

وعاد نعيم الشطري المكنى بأبي ربيع اسم في عالم الكتاب وشارع المتنبي، ويسموه المثقفون شيخ بائع الكتب أو شيخ الوراقين. رجل قضى عمرا طويلا بين الكتب. رحل عن عالمنا عام 2012 عن عمر ناهز 72 عاماً.

والحاج محمد كاظم الخشالي مواليد 1917 وهو صاحب أقدم مقهى في شارع المتنبي "مقهى الشابندر" وقد شكل سوق الجمعة في المتنبي ظاهرة حية في الحياة الثقافية البغدادية فقد كان الموظفون بالأدب والفن والصحافة يجتمعون في المقاهي الاثيرة صباح كل جمعة، حسن العجمي والبرلمان (التي زالت) بعد أن بقيت طويلاً تحت اسم مقهى الرشيد والمقاهي القريبة ثم يتحولون الى شارع المتنبي، وحسب روايات المؤرخين فإن مكتبة عبدالرحمن ثنيان أول مكتبة أنشئت في شارع المتنبي عندما قام بنقل مكتبته من سوق الصفافير، وقاسم الرجب بعد أن نقلها من سوق السراي.

وهذا الشارع أصبح له مريده لما يتمتع به من مساحة محدودة من الحرية التي يتطلع لها المثقفون ليقولوا ويعبروا عما يؤمنون، رغم بعض المحاذير من أن يثير هذا الرأي أو ذاك حفيظة البعض من الطروحات الجريئة التي يحاول البعض التعبير عنها بعيدا عن عيون السلطات وتوابعها، لكن يبقى هو المتنفس الوحيد للكلمة الحرة بعد أن تغلغلت أغلب المؤسسات الثقافية وحتى المهنية بنفس السلطة التي ترضى بالمديح وترفض الذم وان كان مشروعا.

لكن يبدو أن هذا المحفل الثقافي المبهر بدأ يطور نفسه بنفسه دون معونة ألا ما ندر حيث ظهرت مبادرات فردية وجماعية لبعض المثقفين أو أصدقائهم من الميسورين لعمل الأطروحات الادبية الجميلة للأدباء الشباب صعودا للكبار. ومن الملاحظات الايجابية التي نسجلها في سجل نشاط هذا الشارع الأدبي الجميل والمثير هي ما يأتي:

1-      إنه تجمع أدبي عفوي بلا أغراض مسبقة سواء كانت سياسية أو ايدلوجية أو طائفية أو عنصرية.

2-      ساحة للتفاعل الثقافي المثمر بعد ان عجزت أغلب المؤسسات الثقافية من احتواء الأنشطة الابداعية فترى الرأي والراي الآخر بأسلوب حضاري مميز، وتبادل المؤلفات فيما بينهم وكذلك وفرة الكتب بأسعار معقولة.

3-      تم من خلال هذا الشارع تسليط الضوء على عمق الثقافة العراقية ودور المثقفين العراقيين لو منحوا فسحة حقيقية للابداع والتألق بلا قيود في أن ترضى السلطة عليهم أو لا ترضى.

4-      كشفت الفعاليات الأدبية والفنية عن مواهب ما كان لها ان تبرز بسبب احتكار النشر للاسماء المعروفة فقط. فكان هذا الشارع المجال الرحب للكشف عن شعراء وفنانين كانوا فيما سبق مغموريين.

5-      بناء تجمعات ومؤسسات ادبية رصينة من خلال الإمكانات الذاتية لأعضائها.

6-      بروز العنصر النسوي الذي أهمل وعانى ما عاناه بسبب الضغوطات الاجتماعية المتخلفة التي تمارسها بعض التكتلات السياسية الدينية المتنفذة فكان هذا الشارع مساحة شبه واسعة للتعبير عن حقوقهن وابداعهن .

ويبقى عطر بغداد التاريخ والحضارة يمر عبر شارع المتنبي ليقول ها هنا عاصمة الدنيا تعود لتقدم نفسها مرة أخرى راعية لكل إنجاز.

لكن رغم كل هذه الحسنات المشبعة بروح الأمل فهنالك سلبيات تكاد تخنق هذا الشارع الحيوي وأهمها:

1.      فقدان الدعم المادي والمعنوي للفعاليات الثقافية من قبل وزارة الثقافة وحتى من قبل المنظمات المهنية نقابة الصحفيين واتحاد الأدباء والفنانين.

2.      فقدان التنسيق الاداري والاعلامي لفعاليات هذا المنتدى مما يفقدها متعة المتابعة للمنتوجات الفنية والادبية لتزامنها في وقت واحد.

3.      هيمنة بعض الطارئين على الثقافة على مقدرات هذا الشارع مما أدى الى تفاقم ظاهرة تدني وهبوط المنتوج الثقافي.

4.      محاولة دخول التكتلات السياسية لهذا الشارع من خلال يافطات الدعم او الترويج للانتخابات واستغلال عدم الدعم الحكومي بطرح نفسها داعمة للمثقفين ونشاطاتهم.

5.      يحاول البعض من بعض المثقفين او المحسوبين عليهم تسويف العمل الثقافي من خلال حضور باهت الغرض منه التعارف السطحي والتقاط الصور التذكارية .

ولكي نحافظ على جمالية وأهداف هذا الشارع الثقافي نحتاج الى دعم حكومي غير مشروط وهيئة مستقلة متخصصة تشرف على اعماله وتنسيق فعالياته الادبية والفنية والتربوية. وان يسمع وينقل ما يقال من طروحات إعلاميا وللجميع دون استثناء، والابتعاد عن زج أي ممارسة دينية طائفية لأنشطته.

نحتاج لحرية حقيقية حتى يتنفس وينتعش الحرف لكي ينطلق ليسجل أروع الابداعات. واذا قيل سابقا مصر تؤلف وبيروت تطبع والعراق يقرأ الآن جميع هذه الوظائف مجتمعة في شارع المتنبي، فلنمنحه المزيد من الحرية ليبدع.

 

المصدر: ميدل ايست أونلاين