إنقاذ المجند رايان.. والتاريخ..

إنقاذ المجند رايان.. والتاريخ..

بدأت الأمواج تضرب أطراف البوارج بعنف، لقد اقتربت القوات الأمريكية على شواطئ النورماندي الفرنسية، كان ذلك في السادس من حزيران من العام 1944، يظهر العلم الأمريكي وهو يهتز بعنف على مقدمة السفينة التي تحمل مجموعة صغيرة من الجنود، يرتجف القليل منهم من البرد والكثير منهم من الرعب، إنها المشاركة الأولى لهم في حرب عالمية اشتعلت في كل مكان وحصدت الملايين من الأرواح، يعلم الجميع بأن الرشاشات الألمانية ستنتظرهم بقسوة على الشاطئ، وستحصد منهم العشرات في ثوان، تبدو اللعبة لعبة حظ ومهارة في تفادي الرصاص المجنون، قلة منهم فقط ستعود وتروي الحكاية للأولاد والأحفاد، حكايات عن «البطولة» و«الشرف» أدت في النهاية إلى استسلام «الأشرار» ودحرهم إلى غير رجعة..!

هذه هي تفاصيل المشهد الأول من الفيلم الأمريكي الشهير «إنقاذ المجند رايان» من إخراج الأسطورة «ستيفن سبيلبرغ»، الفيلم الذي أصبح معلماً مؤثراً في تاريخ السينما الأمريكية والعالمية بعد أشهر فقط من إطلاقه في العام 1998،إنه تحفة فنية لم تفوت أي تفصيل من تفاصيل الحرب العالمية الثانية،من خلال سرد قصة بطولية تحاول فيها مجموعة صغيرة من الجنود البحث عن مجند أمريكي يدعى «رايان» لإعادته إلى أهله، لتتحول زيارتهم للشواطئ الفرنسية إلى مهمة إنسانية يتجول فيها الجنود في الريف الأوروبي، ويفقد الكثير منهم حياته في عملية البحث هذه، التي صورها «سبيلبرغ» بطريقة إبداعية عن طريق الانتباه الشديد للتفاصيل والاعتناء المذهل بجميع جوانب العملية الإخراجية.

تستطيع تذوق مياه البحر المالحة وستشعر بأنك تتلقى رصاص الرشاشات بأزيزها الذي يعصف بك بين صخور الشواطئ الفرنسية، شكل هذا الفيلم العنوان الأبرز لتلك المرحلة، وحصد نجاحاً منقطع النظير واحتل مكاناً مهماً في ترتيب الأفلام العالمية بشهادة الكثير من النقاد، وهاهو يعود إلى الأضواء اليوم مع احتفال الولايات المتحدة الأمريكية و«حلفائها» بيوم إنزال النورماندي: «اليوم الذي قهر فيه الحلفاء النازية» كما يتم التعريف عنه.!

وقاحة أمريكية..

بدأت القنوات الكبرى بنقل هذا الحدث السنوي الهام، اجتمع رؤساء الدول الكبرى لتمجيد تلك الذكرى، صدحت الأناشيد العسكرية على الشواطئ الفرنسية وجلست الوفود على الرمال وتحت المظلات تستمع للخطب التي ألقاها الرئيس الأمريكي و«حلفاؤه» عن المناسبة، مع حضور كبير للمحاربين القدماء وقد ارتدى كل واحد من أولئك العجزة بدلته الرسمية ترافقها نياشينها اللامعة وأخذ يصفق بيد مرتجفة تستذكر هذا اليوم المرعب.

«إنكم القوة التحريرية الأكثر عظمة في تاريخ البشرية» يصفهم الرئيس الأمريكي وهو يهز رأسه أمام العدسات، ثم بدأ يتحدث مراراً عن «فضل» القوات الأمريكية وحلفائها في هذه الحرب ومفاعيل هذا «الإنزال العظيم» على مسار المعارك على هذه الأرض، في تجاهل قبيح لحقائق التاريخ وحقيقة الحجم الذي أخذته تلك القوات في ذلك الوقت..

يكفي أن ينظر أحدنا إلى تاريخ الإنزال «المجيد» هذا ليعرف الحقيقة، لقد سبق موعد انتهاء الحرب بسنة تقريباً، حضرت تلك «القوة التحريرية» إلى الشواطئ بعد أن انتهت الحرب على الورق، وبعد أن أنهك الجيش الأحمر القوات النازية في الشرق وأباد منها الجموع المهولة، يستذكر المخلصون لحقائق التاريخ معركة «ستالينغراد»، التي استمرت من الثالث والعشرين آب من العام 1942 إلى الثاني من شباط في العام 1943، المعركة الأشرس والأضخم في تاريخ الحرب والتي حولت مسار الحرب وأعلنت انهيار النازية بعد صد الجيش الأحمر أضخم حملة عسكرية في التاريخ بعرض جبهة وصل إلى ألف ميل! وبمشاركة ثلاثة ملايين جندي نازي و 7500 قطعة مدفعية وتسع عشرة كتيبة من كتائب دبابات «بانزر» الألمانية وثلاثة آلاف طائرة لمدة أربعة عشر شهراً دون انقطاع، فتحطمت تلك القوة وانهارت معنويات الجيش الألماني فاستسلم بعدها اثنان وعشرون جنرالاً نازياً للجيش الأحمر وألقى عشرات الآلاف من الجنود السلاح.

لكن الرئيس الأمريكي و«حلفاءه» لا يريدون تذكر هذه المعركة على الإطلاق، ولا يعتبرون روسيا اليوم أحد أولئك الحلفاء أصلاً، وبالأخص بعد التوتر الذي شاب العلاقات بينهم في الآونة الأخيرة، يكفي أن نعلم بأن الرئيس الأمريكي هو الرئيس الوحيد الذي لم يشارك في احتفالات يوم الإنزال هذا في السنوات الأربع الماضية، حيث واظب جميع أولئك الرؤساء على حضور ذكرى يوم الإنزال طوال التسع والستين سنة الماضية، أما «أوباما» فقد تجاهل هذه المناسبة في السنوات 2010 – 2011 -2012 – 2013 لكنه رغب اليوم في الحضور وتشويه حقائق التاريخ كنوع ساذج من التهميش للدور السوفييتي في تلك الحرب، والممثل بروسيا حالياً.. كانت لعبة مفضوحة على كل الأحوال!

«دريسدن.. وبغداد»

قد تأسرنا مشاهد الأفلام الأمريكية التي صورت تلك الأيام، فقد استثمرت فيها المؤسسة العسكرية وماكينتها الإعلامية الكثير من الأموال لكي تظهر للجموع بهذه الجودة، هي بالفعل تحف فنية تمتع الناظر وتشده وتعرف نفسها على أنها المرجع التاريخي الأكثر موثوقية، لكن حقائق التاريخ تخالف ذلك تماماً، يكفي أن تسأل مثلاً سكان المدينة الألمانية الجميلة «دريسدن»، ومن كان فيها ليلة الثالث عشر – الرابع عشر من شباط في العام 1945، أي قبل شهور قليلة من نهاية الحرب، قام «الأبطال» من سلاح الجو الأمريكي بتجهيز ألف طائرة قاذفة قامت خلال ساعات بحرق المدينة بالكامل وسوت بيوتها بالأرض في مجزرة لا يتحدث عنها أحد، فقد ثلاثين ألف ألماني حياتهم في ساعات، في مشهد يعيد إلى أذهاننا نحن مشاهد بغداد المحترقة في الليل، رغب «المحررون» الأمريكيون بالمشاركة في حرب كان قد حسمها الجيش الأحمر قبل أشهر عديدة، لتقاسم كعكة الانتصار لا أكثر، دون أن ينسوا أن يتركوا بصمتهم «الحضارية» على المدن والمقاطعات التي حرقوها «نكاية بالنازية» كما يصفها أحد جنرالات الحرب الأمريكيين في مذكراته، لا مكان لتلك الوقائع في احتفالات يوم الإنزال، لا بد من استثمار هذا اليوم لتوجيه بعض الرسائل السياسية وحصد بعض التبرعات الإنسانية والتصفيق بحرارة لجوقة كاذبة لم تكتف بعد من تشويه التاريخ!