التنمية المجتمعية والأزمة..!
رسمت الأزمة السورية خلال هذه السنين كارثة غير مسبوقة على الصعيد الإنساني، ويبدو أنها قد تركت أثرها البليغ على كل شيء، حطمت من المسلمات وزعزعت من الرواسخ، لكنها أطلقت إلى العلن الكثير من الحقائق الفاقعة التي استساغ الناس تجاهلها، فقد مرت على البلاد محن كبرى من قبل، ربما لم تبلغ هول ما نراه اليوم، لكن التاريخ يخبرنا المزيد، يبدو أن هنالك شيئاً ما قد انكسر.
انحنت القامات واستسهل الكثير منا الانفصال الكامل عما حوله بعد أن تلاشى أي حس بالانتماء الحقيقي في الهواء، لم يعد الإنسان بالقوة التي عهدها في مواجهة ما سبق من أزمات، الإنسان الذي يقود تقدم الأوطان، لا تأثير لأي محصلة تراكمية حققتها جهود التنمية البشرية، ولم يبق الكثير مما يعزز الهوية الوطنية ويُحصن وحدة المجتمع من الأخطار الداخلية والخارجية.
قهرت سورية المستعمر الفرنسي، لتشهد بعدها مجالات التعليم والثقافة الوطنية ونشر القيم الديمقراطية والمجتمعية القائمة على العمل والإنتاج وغيرها طفرة كبرى، وهذا ما حقق نمواً اقتصادياً تلازم مع مسار النمو الاجتماعي هذا، تعززت وحدة الصف وانكسرت المشاريع الاستعمارية والرجعية أمام الرفض الشعبي العارم كحلف بغداد والهلال الخصيب وغيرها.
إن كان تحقيق التنمية الاجتماعية عملية تراكمية تستغرق سنواتٍ طويلة وتحتاج إلى تخطيط وجهود كبيرة، فإنّ التراجع عنها أيضاً لا يأتي بين ليلة وضحاها، لأن هدمها أسهل من بنائها كما يعلم الجميع.
كرة الثلج تتدحرج..
بدأ التراجع عن كل هذا منذ بداية الثمانينيات، بدأ العمل بـ «سياسة الانفتاح»، لتنتعش قوى الأنماط الاستهلاكية الرخيصة، جرى الهجوم على النواة الثقافية واحتكارها واختزالها، بدا وكأن البلاد تسير إلى الوراء دون أن يشعر الكثيرون بذلك، وأكملت السياسات الليبرالية الجديدة التي طُبّقت في السنوات العشر الأخيرة ما بدأ من عرقلة، وطالت الاقتصاد والمجتمع وكل ما يدور في فلكهما، تراجع دور الدولة التنموي، فكان النكوص والارتداد إلى إنتاج أكثر العلاقات تخلفاً ما قبل الدولة الوطنية، القومية المتعصبة، والدينية المتزمتة، والطائفية المقيتة، والعشائرية المتخلفة. ثم بدأت تلك الانتماءات الضيقة بالهجوم على أهم ما يساهم في بناء الإنسان كالتعليم بمختلف مراحله وكذلك في السياسة تحت سيطرة القوى المهيمنة وقوى المال والفساد، فأضعفت الاقتصاد والمجتمع ووحدته الوطنية، وأعلنت عن بدء كارثة حقيقية اقتصادية-اجتماعية لم تنتظر طويلاً كي تتفجر في وجوه الجميع!
بدأت كرة الثلج بالتدحرج بسرعة غير مسبوقة، وظهر التراجع الاقتصادي والاجتماعي ودور الدولة في غالبية أنشطتهما بشكل غير قابل للتأويل، وتوقفت خاصةً في مناطق القتال المتوترة، والمناطق التي خرجت عن سيطرة الدولة، وبدأت الثنائيات الوهمية في التعامل مع الأزمة كالحسم والإسقاط والموالاة والمعارضة وغيرها تطوف على السطح لتجذب معها العديد من الشباب إلى دوامة دموية بغيضة، لا وجود لمؤسسات أهلية لتعوض لو قليلاً، انتبه الجميع إلى هذا، لكن كلّ شيء قد أصبح تحت سيطرة المسلحين والتكفيريين الظلاميين. أو اللصوص والحرامية والفوضويين وشذّاذ الآفاق ونهبهم وتخريبهم.
أمام مفترق طرق..
يبدو أن التنمية المجتمعية قد نالت حصة كبرى مما جرى، فتوقفت نهائياً نشاطات عديدة طالت التعليم والثقافة وتعدتها إلى التاريخ وحضارته والجغرافيا ،والعادات والتقاليد والتراث، وارتفع مستوى الفقر والبطالة، أمّ الرذائل، مما أدّى إلى تهشيم في كثيرٍ من الجوانب المجتمعية وخاصةً النساء والأطفال، الحلقة الأضعف في بنية المجتمع، سبيت النساء واستبيحت براءة الأطفال في كثير من الأماكن، تحولت ألعابهم إمّا إلى ألعاب القتل، أو تشييع شهداء وغيرها.. ناهيك عن حرمانهم من أبسط حقوقهم وهو الحياة، فصاروا يموتون جوعاً بسبب الحصار أو بالقصف والقنص أو التشوه الجسمي والنفسي والخوف وما يخلفه من أمراض عضوية أخرى كسكري الأطفال وسلس البول وغيرها من الأمراض..
يبدو أننا أمام مفترق طرق على قدر كبير من الجدية، إننا على شفير فقدان الاستثمار الأهم في التاريخ، الإنسان، وأمام شظايا ذاته المحطمة نقف جميعاً وبين أيدينا مسؤولية كبرى، ما حصل ليس مأساةً فقط.. بل جريمة بحق المجتمع والوطن، وسيستغرق معالجة نتائجها وقتاً طويلاً، وسيكلف الكثير سواء بالمال أو الجهد.
ومع ذلك هناك الكثير، فالسوريون لم يفقدوا الأمل، وهم يحاولون ويبادرون، في مجالات كثيرة، تنموية اجتماعية فردية وجماعية، مبادرات غير مسبوقة، تحاول لملمة الجراح وتعيد نفخ الروح في بذرة الأمل المحتضرة، مبادرات تبذل الجهود مضاعفة لإعادة الإنسان إلى المصنع والمدرسة، لإنها مركز الثقل في كل جهد مستقبلي بنّاء، بعد أن يزول غبار الدمار إلى غير رجعة.