ترى.. هل هناك شيء للتبليغ عنه..؟
فلسطين.. جرحنا الدامي عبر الزمان والمكان، وقبلتنا أين حللنا، وأنى رحلنا.. وفلسطين ـ من قبل ومن بعد ـ وجع قلبنا العاشق المضرج بشقائق النعمان في كل الصباحات.. وفي كل المساءات... وأنا لا أريد، في هذا المقام الجليل، التوجع والتفجع والبكاء.. وإثارة الأسى والحزن والشفقة والمشاعر.. وتفجير الأحاسيس والعواطف.. لدى القارئ؟ كما لا أريد، ها هنا، الندب السياسي والوجداني..؟ أجل.. لا أريد هذا، ولا ذاك.. أود، فقط، أن أقول: في الخامس عشر من شهر ايار سنة 1948 تم تأسيس الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، والإعلان رسمياً عن قيام دولة لقيطة على ترابها العربي تدعى «إسرائيل»، حملت، ومازالت، تهديداً مصيرياً جدياً مستمراً للأرض العربية ووحدتها، بل للوجود العربي كله من ألفه إلى يائه (...).
وتحققت النكبة.. وهزت أعماق الإنسان العربي عامة، والفلسطيني خاصة، بل زلزلت وجوده وكيانه.. وكشفت واقع أمته المتردي سياسياً واجتماعياً وعسكرياً وحضارياً... وكانت حصيلتها احتلال وطن عربي احتلالاً كولينيالياً، وتشريد القسم الأكبر من أهله ممن راحوا يضربون في الآفاق، واتشاح سماء العربي والفلسطيني وأرضه وحياته بالسواد والحزن والألم واليأس المأساوي.. فأخذ يتجرع مرارة النكبة، ويتحسس ضميره المعذب، ونفسه الممزقة، وكرامته الجريحة، والعار الذي لحق به...
ومما لاريب فيه أن الغرب الإمبريالي بأسره (...) والحركة الصهيونية العالمية: والرجعية العربية وحكامها المتخاذلين، المستسلمين، يومذاك، والتخلف السياسي والحضاري... كانت عناصر نسج خيوط المؤامرة مجتمعة، وهي التي نفذت جريمة النكبة الفاجعة.. منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى يومنا هذا (..؟).
لقد مضى ستون عاماً ونيف على احتلال فلسطين، وعلى اغتصاب حقوق شعبها العروبي، وتشريد معظمه في داخلها وخارجها.. ستون عاماً ونيف وملحمة فلسطين الحمراء مازالت فصولها التراجيدية تتوالى (..؟!)، ومحاولات اغتيالها وتصفيتها نهائياً، أرضاً وشعباً، لم تزل قائمة حتى هذه اللحظة الراهنة (..؟!).
ألم يعلن الكيان الصهيوني العنصري، ورأس الإمبريالية العالمية المتوحشة، والفوضى الخلاقة، والنظام العالمي الجديد الذي استباح العراق على جميع المستويات، وفي مختلف المجالات، والذي عمل، ويعمل، بلا كلل وبلا ملل، على تقسيم المقسم، وتجزيء المجزأ، وتفتيت المفتت، واصطناع دويلات طائفية، مذهبية، عرقية متناقضة ومتناحرة.. (...)، ألم يعلنا «إسرائيل» دولة «يهودية» خالصة (في الحالة تصير أرض فلسطين العربية أرضاً يهودية تعود ملكيتها إلى يهود العالم فحسب، سواء أقاموا فيها أم لم يقيموا..) تقف فوق القانون والمجتمع الدوليين، وفوق الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وشرعة الأمم المتحدة، وفوق الحق والعدالة.. وتقع خارج دائرة المعايير الإنسانية والأخلاقية والقانونية والحقوقية..؟!
وفوق هذا وذاك ألم يحاصر معظم النظام الرسمي العربي اللاشرعي الذي لم يكتف بالتسليم غير المشروط للإملاءات الأمريكية/ الصهيونية، ألم يحاصر قوى المقاومة والمعارضة والمواجهة، دولاً وأحزاباً وحركات، ويعمل بشراسة على إسقاطها بكل الوسائل المادية والمعنوية (..؟)، ألم يعمل هو الغرب الإمبريالي العريان حتى من ورقة التوت على تحويل شعب فلسطين إلى «هنود حمر» على الطريقة الأمريكية، وهي مثال في القتل البربري يشار إليه، وأنموذج تاريخي في الإبادة الجماعية، و«البناء» والعيش على أنقاض البشر والحجر والأخضر، وجميع المفردات الإنسانية لسكان الأرض الأصليين الحقيقيين.. لقد كان مشروع «بن غوريون» الاستعماري الاستيطاني (الكولينيالي) ينهض على مبدأ: «إن تدمير فلسطين شرط لقيام إسرائيل»، وبناء على ذلك استولى على /78%/ من فلسطين، والذين جاؤوا بعده من تابعيه أجهزوا على ما تبقى منها... إن الحركة الصهيونية سعت، وتسعى بكل الوسائل والسبل إلى صياغة تاريخ وجغرافية جديدين خاصين بفلسطين (...) وعملية «التطهير العرقي» المتجذرة في الفكر الصهيوني جرت وتجري ضمن هذا الإطار، وهذه العملية، كما يرى الدكتور سلمان أبو ستة مؤسس هيئة أرض فلسطين ورئيسها، لها ثلاثة أذرع:
اقتلاع أهل هذه الأرض من ديارهم..
الاستيلاء على الأرض، وما عليها، وما بها من ممتلكات وثروات..
مسح تاريخ شعبها بإزالة كل ذكر له في كتبهم ودراساتهم.. ومسح جغرافيته بتدمير قراه وآثاره الدينية والحضارية... وكما يتملك الصهيوني الذعر الشديد من احتمال أن يعود فلسطيني واحد إلى بيته، يتملكه الذعر، أيضاً، إذا رأى حائطاً باقياً من ركام مسجد، أو شاهداً من شواهد قبور الذين عاشوا على تلك الأرض...
إن نكبة فلسطين لهي جريمة تاريخية موصوفة مأساوية بكل المقاييس.. وقد بلغ عدد اللاجئين من ديارهم اليوم أكثر من /7/ ملايين لاجئ، وهم منتشرون في ما تبقى من فلسطين، وفي الدول العربية، وفي أمريكا الشمالية والجنوبية، وقلة منهم في بقية دول العالم...
ترى.. هل هناك شيء للتبليغ عنه؟ المناخ العام العربي والإقليمي والدولي بماذا يشي..؟ إيلام يفضي..؟ والمتغيرات، هنا وهناك، ما حقيقتها، وما مدى جديتها وصدقها وفعاليتها وآفاقها..؟ واستقراء الراهن العربي هل يشير إلى أن العقد الاجتماعي قد تغير، وأننا قد دخلنا، حقاً، زمن الوطن والمواطنة والديمقراطية والتعددية.. أم مازلنا ضمن إطار سياسي عربي تحكمه، في العميق منه، الطائفية، المذهبية، العرقية، العشائرية، الفئوية والعائلية.. وينهض على دعائم التكفير والإقصاء والإلغاء والانكفاء والقمع والمصادرة والاستبداد..؟
وإلى ذلك جميعاً: الرهانات والتحديات خارجياً وداخلياً على الصعيد الفلسطيني هل حسمت؟ وهل يمكن أن نضع المتناقضات (الأضداد) في سلة واحدة، ومن ثم النظر إليها على أنها منسقة ومتناغمة ومتجانسة..؟ سلوا المادية الجدلية التاريخية (الفلسفة الماركسية)، وسلوا «روجيه غارودي» في (واقعية بلا ضفاف)...
مرة أخرى يا ترى... هل هناك شيء للتبليغ عنه؟ نعم.. هناك شيء واحد فحسب حتى لحظة الانتهاء من كتابة هذه الكلمات: بعد أكثر من تسعين عاماً من «إعلان بلفور» وبعد ثلاثة وستين عاماً من قيام دولة «إسرائيل» على أرض فلسطين العربية الكنعانية مازالت النكبة مستمرة.. ومازالت دماؤنا شارة وعلامة...؟!