كونديرا في «عيد اللامعنى».. القراءة من دون استسهال
حسن نصّور حسن نصّور

كونديرا في «عيد اللامعنى».. القراءة من دون استسهال

يقول كونديرا في حوار قديم لمجلة «نيويوركر» أجراه كرسيتيان سالومون: «إن الروايات جميعها في كلّ زمان تعكف على «الأنا». بمعنى إدراك ماهية هذه الأنا والسعي الى امكانية تعريفها».

العقدة التي من شأن القارئ مواجهتُها في عمل كونديرا الأخير (la fête de l’insignifiance gallimard. ، لم تترجم بعد الى العربية)، هي مسألة قدرة القارئ على تجنّب الوقوع في فخ استسهال السرد هذه المرة، اذ لا يبدو لأولّ وهلة متداخلا أو بالغ التعقيد. ثمة، بطبيعة الحال، حرفية عند ميلان كونديرا في التلاعب السلس الممتعِ بالزمن السرديّ لنصه. والقدرة على تزخيم الحاضر بمتخيّل مستثمَرٍ الى اقصى حدوده، وهو الى واقع السرد الماديّ اقرب منه الى وهمٍ. والقدرة على تبطئة المشهد الروائي العاديّ في سبيل تدوير زوايا تفاصيله الحميمة النوستالجية المتصلة ضمناً في غالب تقاطيع النصّ.

مثلا يكون التساؤل الأبسط والأعقد في آن، حول احدى شخصيات كونديرا (شارل) في مطلع الرواية عن دلالة فكرة أن يغويه من المرأة زرُّ بطنها على غير العادة؟ أو ما الذي يدفع شخصاً معافىً (دارديلو) لعدم السعي أوالاهتمام الى تصحيح انطباع صديقه (رامون) بشأن سلامة نتائج تحاليله الصحية فيما يخص إصابته بالسرطان وتركه على ظنه؟ شخصيات كونديرا الجديدة، اذ يربطها خيط الصداقة، تتّكئ على طريقة كونديرا الخاصة في ترتيب وصياغة «ديالوغاته» القلقة.. نعني أسلوب الروائي التشيكيّ المعهود في تعقيد البدهيات من الصور، أو الألفاظ، أو المشاعر التي ترهق الاشخاص في الحياة اليومية العادية.

نقول: ربما يكمن المعنى الاجماليّ لنصّ كونديرا في شعور القارئ بالإرهاق من جراء الرغبة لإعمال التفكير في دلالات استخدام الثيمة، محورِ السرد. مثلا، تحوُّلُ (ستالين) من ثيمة نمطيّة، كما نعرف عنه، الى ثيمة خصبة في نصّ صاحب «خفة الكائن التي لا تحتمل»، سيظلُّ يثير أغرب الانطباعات في ذهن المتلقي، لجهة المساحات والجوانب التي يطاولها كونديرا في التعامل مع عالم ستالين الداخلي وعلاقاته. 

كلّ تلك دلالات غير مفصولة عما يريد الروائي من خلاله تعريف الكائن البشري بهشاشته وتناقضاته وافتقاره الى المعنى الناجز. نبحث في التراكيب عن خلفيّة فلسفية لا تقل متانة عن مسارات السرد والعلاقة بين الشخوص. ليس ثمة انفصام عنده لتطويع الحوار، على سلاسته، وبساطته لمصلحة خلفية تستمد كامل دلالاتها من تساوق رمزي بين تاريخ الرواية وسياقات المذاهب الفلسفيّة الحديثة.

تكمن المسألة كلّها، عند كونديرا، في الشعور الخالص بالتسليم بفكرة استعصاء هذا المبنى الوجودي، باللامعنى، التسليم بالهشاشة كسبيل، والاستسلام التام للحظة الفعل الآنيّ كخلاصة معقولة للحاضر المعيش من دون السعي وراء حقائق قطعية قد لا يكون لها أثر غير تكريس الإقامة في هاوية استعصاء الفهم، مطلق فهمٍ أو حلِّ اللغز. ولعل هذا التسليم يكون كفيلا بتحسين شروط الاقامة، هنا على هذه الارض، بأمزجة جيدة نسبيّاً: «اللامعنى.. هو السبيل إلى المزاج الرائق» (l’insignifiance... elle est la clé de la bonne humeur).

 

المصدر: السفير