عن الخبز والبنادق الهشة..
جرمانا كعادة المدن ذات التاريخ الصلب والحاضر المشوه لا تجيد الجنازات أو الأعراس على حد السواء.. وتتحدث بنبرة عالية وعدوانية وهازئة دوماً.. أبنيتها أقل ما يقال عنها أنها سيامية الأسمنت والأبواب والقبل لكنها دافئة.. وساحاتها تضج برجال ونساء وأطفال عطاشى للحياة المسلعة على واجهات متاجرها وقليلي التعاطي لها..
يقطن جرمانا مئات الآلاف، عشرات العقائد، دزينة كاملة من الأحزاب، جمعيات خيرية و أهلية وثقافية لا تنقذ شيئاً. لدينا جوامع وكنائس وخمارات. ومن يمشي مرة في شارعها العام يعرف أن هوية هذه المدينة لا تحدد بطائفة أو أيديولجية أو منطقة.. ومن قابل شبانها وصباياها يدرك أن الأمل هنا لا يؤطر.. أما من سكن فيها عشق فرنها الآلي وخبزه وطابوره القصير.. سنوات طويلة قضيناها هنا تعلمنا فيها أن نمارس أنفسنا معاً، والآن ليس استثناء..
صباح الثلاثاء الأبيض أو الأسود أو القرمزي -واختلاف التسمية يعود لتباين انتماءات سادت فيها مؤخراً بين معارضٍ وموالٍ و كل البقية- ودعت جرمانا ستة من أبنائها سلبها إياهم واقع مختل.. ستة أكفان حاكتها أيادٍ مظلمة ومجهولة في ثلث ساعة كادت أن تفقد مدينتي لوناً مميزاً كونه أبناءها خلال مئات السنين بتواتر مشبوه ليبقى بعد فنائهم الواضح..ست أرواح انطفأت على حاجز لجنة شعبية كادت أن تطفئ عقول كل من تبقى و تنجب لوثة النار لمدينتي..
جرمانا التي احتضن أهلها إخوتهم كما يليق و يجب بأبناء سورية و فتحوا قلوبهم وبيوتهم للهاربين من الموت والموت المضاد واستنفروا تطوعاً كي لا يحس القادمون بغربة الأم اللئيمة بعد غياب الأب المتعنت.. جرمانا التي حتى أسابيع قليلة لم تشهد صداماً واحداً دامٍ بين اصطفاف الوهم السائد.. جرمانا التي بقيت غريبة عن القنابل والرصاص طوال سنة ونصف من القنابل والرصاص والفلفل الدولي كادت أن تمتهن الجنون في دقائق.. في الأسابيع الماضية انتشرت في مدينتي حواجز ولجان مسلحة تدعي حمايتها من الغريب المارق ومن يعرف جرمانا كما أعرفها يدرك أنها أتقنت مع الوقت حماية نفسها من كل شيء عدا نفسها.. مدينتي التي انتفضت بفقرائها منذ 19 عاماً ضد جرافات المال المدجج بالسلطة لا تقبل وصاية أحد. ولا ترضى بأن يحكمها سلاح بأكف مرتعشة أو مدربة.. لكنها الآن بعد أن أصبحت نسخة خراسانية عن الحضارة المجترة تمكنت سطوة المال و الرعب في العشرين عاماً الأخيرة أن تضعف مناعتها وتبقي على صيغتها الغضبة..
الآن مدينتي تعيش محنة وطن لكن بتبعات أشد قسوة ومرارة.. جماعات المسلحين العملاء تتجول حولها محاولة نهش إلفتها وسلامها كما نهشوا ما نهشوا.. ورجال الأمن الأهليون يساعدونهم بتحديهم جهراً مدعومين بزواريب بعض فروع الأمن وبعض المتنفذين المحليين الطارئين.. يوهمون بأن عنجهيتهم المزمنة ستحمي جرمانا.. ويجهلون أنهم يقدمون خدمة مجانية لتجار الدماء المنحولين من النفط والعقالات.. أنهم يقودون مدينتهم إلى الحرب الأهلية القذرة بتمترسهم.. لا طرف رابح في هكذا حرب.. ولا عدو هنا سوى الحرب بعينها.. هم غير مدربين أو مجهزين على الاشتباك ولا يجيدون التكتيكات العسكرية.. لا يعرفون أنهم مغناطيس رصاص متحرك..لا يدركون أن دماءهم إذا سالت حارة ستدفع دماء من أحبهم وزاملهم بالدراسة وكان لهم رفيقاً أو لم يكن إلى الغليان والانتقام الأعمى وأن الآخرين كذلك سيقومون بالمثل..وعندها ستأكل جرمانا إبطها بأسنانها..
تشاجرت مرة مع صديق ومعلم لي حول أن السلاح يحمي حامله بالضرورة.. كانت إجابته دقيقة وصادقة وأكثر نضجاً من ترددي وحماسي معاً.. المسلح المدني ليس حماية لمحيطه بل هدف ظاهر مهمته أن يُستهدف وعند استهدافه ستكون هناك أضرار جانبية على الأغلب.. والأضرار الجانبية عادة في المدن الساكنة أطفال ومدنيون عزل وأعمدة إنارة..يوم الثلاثاء اقتنعت.
إنه وقت أن نعي مدينتنا قبل أن نفقدها..إما أن تضبط هذه الأشكال من التسلح الأهلي المتباهي والذي لا يخضع إلا لرعونته.. وتصبح مهمة حماية جرمانا المتنوعة النسيج والخزان البشري الطاف ضمن مهام الجيش العربي السوري ضمانة للوحدة الوطنية.. وإما أن نرى شهداء جدداً عند كل زاوية ونخب.. إما أن تتخذ الحكومة على عاتقها مسؤوليتها بالحل السياسي والحوار العلني الشامل وإما أن نرى عظاماً متفحمة خرساء.. إما أن نطلق سراح المعتقلين الذين لم تتلوث أياديهم بالدماء وإما أن نرى دماء الإخوة على أيدي الإخوة.. إما أن نحاسب الفاسدين الكبار ولصوص المال العام وإما أن نخصخص لجرمانا ولكل مدينة أخرى مقبرة محايدة.... إما أن نحارب السياسات الاقتصادية والأسواق الحرة التي أحلت الصقيع في عروق شجرة الشعب السوري العريق وإما أن نتحول إلى حطب مبتل بقيح الطائفية.. إما أن نحسم حرب اللقمة لمصلحة الفقراء والشعب والوطن وإما أن نتهيأ لحرب الضباب عند كل نفس والتفاتة.. إما أن نمنح الحقوق السياسية والمدنية والثقافية لأبناء وطن واحد و علم واحد وإما أن نرى أجزاء على الخارطة بأعلام ٍ وراياتٍ بشعة التشكيل والمضمون وتوابيت على الأرض..
مدينتي جرمانا كوطني العظيم سورية...لا تخاف السلاح...أهلها بتعددهم ضمانتها..ومصيرها أن تعيش رغم أنف العالم...
البنادق هشة أما الأوطان فلا تنكسر..