يا تقبرني
حسني هلال حسني هلال

يا تقبرني

« 1»

«النفس تجزع أن تكون فقيرةً

والفقر خيرٌ من غنىً يطغيها

وغنى النفوس هو الكفاف وإن أبتْ

فجميع ما في الأرض لا يكفيها»

الناس.. كل الناس يولدون، لدى انفصالهم عن أمهاتهم، ورؤيتهم النور لأول مرة، وهي الولادة التي يتساوى ويستوي فيها الناس جميعاً.

قلة من الناس فقط، يولدون مرة ثانية، عندما يتمخضون عن إعجازات ما. أولئك، هم العباقرة والمبدعون، الذين ترى أعمالهم النور، لدى انفصالها عنهم، في نصٍّ / قميصٍ/ خاصٍ بها.           

من الإبداع ما يُرسم في لوحة..

يُجسَّم في منحوتة..

يُسرد في رواية..

يُعالج في مسرحية..

يُنسج في قصة..

ومن الإبداع، ما يتقطر في قصيدة..

« 2 »

لم يقيّض لأبي حيان أن يكحِّل عينيه برؤية مخطوطيه مطبوعين ومنشورين، تتجاذبهما الأيادي وتستعرضهما الأذواق. لكنه استطاع أن يخط في وجدان أصدقائه وطلابه وعارفيه، من أسلوب العمل ومبادئ الحياة، ما يحوز على الإعجاب ويصعب على النسيان.

« 3 »

أنزلناه الحفرة التي حفرناها له، (لكن، ليس بقصد الإيقاع به، كما وجرى معه غير مرّة) وشرعنا نهيل التراب فوقه، كي نسدّ عليه منافذ الضوء والهواء (ما لم يعد بحاجة إليهما، وقد كان)..

قال أحدهم مترحماً:

ما كان المال ولا المنصب ولا الجاه ولا سواه من المغريات، هدفاً له. كان يعشق العلم،  ومشروعه في الحياة بناء أسرة متعلمة. وقد حقق ذلك، فها هما ابناه حيان وغيلان أستاذان من خيرة شباب وأساتذة البلد.

عقّب ثانٍ وهو ينقل نظره بين الأشجار، التي كانت تشيِّع ـ على طريقتها ـ راعي شتولها ورفيق عمرها:

كان طموحه بعد أن تقاعد: إشادة بستان قرب بيته، يبثه أحزانه الصغيرة وآماله الكبيرة.. يتسلى بالعمل به بعد فروغه من القراءة والكتابة.. يطلق أسماء أصدقائه على أشجاره.. ويوزع ثماره ـ بعد اقتطاعه كفاف أسرته ـ على الأحبة والمستحقين وكان له ما تمنى.

ثم أردف ثالثٌ معزياً ومتوجهاً لابني الفقيد:

كان حلمه وهو يعد البروفة الأخيرة لمخطوطيه، اللذين سكب فيهما رحيق ذوقه في الأدب وتنقيب عمره في الآثار. لو يمهله القدر، لينشرهما . غير أن الأخير، كانت له حساباته الأخرى، حين وضعهما برسم مسؤوليتكما. ولا أراكما تقصِّران!.

وقال آخر شارقاً بدمعه وهو يضع اللمسات الأخيرة، على الشاهدتين :

نادراً ما كان أبو حيان يدعو صديقاً باسمه، وإنما بلفظته الأثيرة إلى قلبه المعروفة عنه «يا تقبرني». الكلمة التي بقدر ما كانت صادقة منه، بقدر ما كانت موجعة لنا. وها نحن ذا ـ وبكل أسى، وحزن ووفاء ورضا وتسليم بقضائه وقدره ـ نحقق أمنيته تلك ونفعل صاغرين!.