تساؤلات في أدب الثورة..

تساؤلات في أدب الثورة..

ربما يكون (الزلزال) هو التوصيف الأكثر دقة  للحدث الذي وقع في المنطقة مؤخراً، ليس فقط لأنه هز المنطقة سياسياً، بل لأنه كسر المألوف، فالحراك جاء هذه المرة شعبياً عفوياً عميقاً قامت به الجماهير دون انتظار لحركة سياسية أو قوى واضحة تقود نشاطها بشكل مباشر، بالإضافة إلى أن تأثيرات الحدث قد تجاوزت حدود المكان والزمان الذي حدثت فيه، مما سيجعلنا نفكر أنه ربما صار بالإمكان أن نشهد نقلة نوعية في التاريخ، والذي قال ماركس عن صانعيه: «إن الناس يصنعون تاريخهم بيدهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم»، مؤكداً على الظروف والمقدمات الموضوعية التي تؤسس للحدث وتسبقه.

ربما كان الحدث (الزلزال) أقرب مثال يقدمه التاريخ نفسه على صحة فكرة ماركس السابقة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد أذهل الحدث الجميع وزلزل النفوس، وما يزال يطرح أمامنا مجموعة هامة من الأسئلة تتزايد مع تسارع أحداثه، وترتبط بتوصيف الحدث ومحاولة فهمه من خلال تحليل إحداثياته والاتجاهات التي يمكن أن يتخذها لاحقاً والمستفيد النهائي الذي سيجني ثماره؟ وقد يكون مصدر الأهمية المعلقة على صحة الإجابة عن هذه الأسئلة ودقتها بالدرجة الأولى هو الخوف من انحراف الحدث عن مساره وعما أراده له صانعوه.

 قد يكون من أبرز الأسئلة التي أطلت أمام وجوهنا هو تسميتها.. هل ما حدث في (مصر أم الدنيا) هو ثورة أم انتفاضة شعبية، أليس أحد أهم الفروقات التي تميز الثورة عن الانتفاضة يكمن بتميز الثورة بوجود رأس (مركز) يقودها حتى لو لم يكن واضحاً؟ وبكون الانتفاضة تعبيراً عن استياء شعبي غير ممثل سياسياً وعفوياً إلى حد ما، وبأحسن الأحوال تقوده كادرات ميدانية تقوم فقط بتنظيمه؟

 وإذا كانت ثورة ،فأين مركزها؟؟ ٍ أما إذا كانت انتفاضة فما هو مصدر درجة التنظيم العالية التي تميزت بها على جميع المستويات، والتي وصلت إلى حد تحديد المكان والزمان مسبقاً، وكان سبباً في تحقيق هدفها الأول وهو إسقاط رأس النظام؟ وهل كان الحدث عفوياً بالمطلق، حدث في التو واللحظة التي أرادها له منظموه؟ أم أنه جاء نتيجة تطور ما راكمه المصريون من حراك منذ أكثر من عشر سنوات من النضال المستمر على شكل إضرابات واحتجاجات مختلفة الأشكال (مثلاً إضرابات عمال المحلة)، ولكنها لم تتوصل إلى أهدافها في حينه بسبب عدم نضج الظروف؟

رغم أن الإعلام حالياً، وبعد سقوط رأس النظام (مبارك) قد استقر على تسمية الحدث بالثورة، ولكن مازال هناك من يحاول تفريغ هذه الثورة من محتواها (إعلامياً أيضاً) من خلال توصيفها بغير ما هي عليه، من خلال المبالغة الواضحة بإظهار الدور الذي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي على الأنترنت مثل الفيس بوك والتويتر... ومحاولة إظهار هذا الدور بأنه كان  حاسماً لدرجة تسميتها بثورة الفيسبوك..

ولكن السؤال هو: هل يكفي الاعتماد على معطيات العلم والاستفادة من ثورة المعلومات والتكنولوجيا، على أهميته، ونفي الحاجة إلى الصلة الحية مع الجماهير والتواصل المباشر معها؟.

وعن دور الجيش الذي يلعب الآن دوراً وطنيا، هل كان وطنياً في زمن مبارك، أم أنه لم يكن كذلك؟ً أم توجد  شريحتان و طرفان داخل الجيش، أحدهما وطني، والآخر ليس كذلك؟ وإذا كان هذه هي الحال، فهل هذا يعني ارتهان الثورة في النهاية للقرارالناتج عن  محصلة ميزان القوى داخل الجيش، أم أن الشعب المصري الذي خرج من القمقم وأحدث  تغييراً نوعياً وجذرياً، لن يعود أبداً إلى الوراءً، وهو الذي كشف، وعرّى، وأظهر عجز الحركة السياسية أمام الجماهير التي كانت تدعي أنها تمثلها وتقدم هذه الجماهير عليها؟

ولكن هل يعني ذلك أن الجماهير قادرة على الوصول بثورتها إلى نهاياتها، و حتى حدودها القصوى دون مركز أو قيادة ربما تتشكل خلال تطور الحدث؟

مهما تعددت الإجابات على هذه الأسئلة والكثير غيرها إلا أن الفارق النوعي والمباشر الذي أحدثته الثورة في عقول الجماهير سواء كانت الفاعلة في مصر أو (المتفرجة ) في بلدان أخرى، هو نزولها إلى الشارع والذي سيعقبه نزولات أخرى خاصة بعد عرفت الجماهير بالتجربة أن القرارات صارت تصنعها القوى الموجودة في الشارع وتغيير عقلية الهزيمة إلى عقلية الانتصار، فمطر الثورة غسل نفوس الناس من الهزائم المتراكمة، وقام بتنظيف المنظومة الأخلاقية والنفسية البالية التي ظلت مسيطرة حتى وقت قريب.. وإذا كان انتصار تموز2006 على العدو الصهيوني قد أعاد الثقة بالقدرة على الانتصار، فإن الشعب المصري في الأيام القلائل التي عاد فيها لمكانه الطبيعي قد أكد هذه الحقيقة وثبتها في عقول الملايين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ما أنتجته الثورة على مستوى  وعي الذات الذي تحول إلى وعي جمعي، تحول بدوره وأصبح ثورياً، والتغيير لا يقتصر على الأنظمة بل على كل المفاهيم المرتبطة بالكرامة الوطنية والتي على أساسها يمكن أن تبنى حقوق المواطنة، فالوطن ليس حدوداً بل هو حقوق أيضاً.

وهذا ما تؤكده نظرة الناس تجاه الشعب المصري والتي تغيرت جذرياً، فالمصري المهان المهزوم الخانع الواقف أمام أبواب السفارات بنفس مكسورة يبحث عن حلول لمشاكله المستعصية خارج حدود بلاده، أصبح اليوم بطلاً لأنه أعاد لمصر البهية كرامتها.