كانت هناك 7000 لغة.. قيامة اللغات.. وانهيارها

كانت هناك 7000 لغة.. قيامة اللغات.. وانهيارها

لويس جان كالفي هو عالم لغات فرنسي ذو شهرة عالمية في مجال دراسة العلاقات بين اللغات والمجتمعات. وبعد أن قدّم سلسلة من الأعمال في هذا المضمار صدر له مؤخرا كتاب جديد تحت عنوان: «كان هناك 7000 لغة».

هذا كتاب عن اللغات «أصولها» و«تنوعها» و«اختلاف طرق كتابتها» و«كلماتها المسافرة» و«النزاعات التي تقوم على أساسها» و«انتشارها» و«تسمياتها للأمكنة» و«ترجمتها» و«آليات تبدلها»، كما تدل عناوين فصول هذا العمل.

لكن هل كانت هناك بالفعل 7000 لغة؟ يتساءل المؤلف ، ويجيب: «بل وأكثر من هذا بكثير لفترة طويلة من الزمن. لكن هذه اللغات تفصح عن واقع توزيع غير متكافئ ذلك أن 5 بالمائة من اللغات العالمية يتحدث بها 40 بالمائة من سكان المعمورة و95 بالمائة من لغات العالم يتحدث بها 5 بالمائة من البشر فقط».

النتيجة المباشرة التي يستخلصها المؤلف من هذا الواقع مفادها أن «التنوّع» اللغوي العالمي يواجه تهديدا حقيقيا. هذا خاصة أن 80 بالمائة من اللغات المتواجدة في عالم اليوم مهددة هي الأخرى بالزوال.

وتسود في عالم اليوم «رسالة» تتعزز يوما بعد يوم وترمي بالتحديد إلى إقناع الجميع أنه هناك لغة عالمية كونية «يونيفرسال» يمكنها أن تساعد البشر في التفاهم فيما بينهم حيثما كانوا. وهذه اللغة هي بالتحديد اللغة الانجليزية التي تنتشر أكثر فأكثر على حساب اللغات الأخرى.

يشير المؤلف في هذا السياق أن حلم سيادة لغة واحدة عرفه المسار الإنساني التاريخي كله، كما عبّرت عنه ذات يوم أسطورة برج بابل الكبير. هذا يعود بالدرجة الأولى لكون أن التعددية اللغوية تمثل واقعا من الصعب تحمله مما ولّد الحاجة بالاعتقاد بضرورة تبنّي لغة كونية واحدة. هذه اللغة قد تكون حلاّ بالنسبة لأولئك الذين يعتقدون خطأ أن تنوّع اللغات هو سبب مشاكل الإنسانية.

ما يقوله الواقع هو أنه ليست هناك لغتان متطابقتان تماما. ثم إن «كل لغة تتضمّن في عمقها رؤية العالم بالنسبة للمتحدثين بها. إنها تتضمن ما يفكرون به (...) وكيف يصنّفون العالم الذي يحيط بهم وكيف ينظّمون حياتهم». من جهة أخرى يرى المؤلف أن هناك علاقة «عضوية» بين اللغة والسلطة، هذا من حيث أن مجرّد الاعتقاد بلغة واحدة للتواصل بين جميع البشر له علاقة مع الامتيازات السياسية والاجتماعية، وخاصة الاقتصادية، للمتحدثين بها في اللحظة التاريخية المعنية. لكن ولحسن الحظ، كما يقول المؤلف، ليس هناك لغة واحدة للتواصل الإنساني وجميع اللغات تُستخدم للتواصل، وحتى تلك التي لا يتحدث بها سوى 25 شخصا مثل حالة لغة «سينيكا» الشفهية في كندا.

وبعد أن يستعرض المؤلف أصول اللغات وآليات انتشارها في العالم يقدّم البراهين على أن «وزن اللغات» قد تغيّر باستمرار خلال مختلف مراحل التاريخ. هكذا مثلا إذا كانت اللغات اللاتينية واليونانية والعربية سائدة في القرن السادس عشر، فإن هناك اليوم لغات أخرى كانت قليلة الأهمية آنذاك ارتفعت اليوم إلى مصاف اللغات الأولى في العالم.

وتشير دراسة أجراها المؤلف في ريو دو جانيرو عام 2007 أن الأهل يتمنّون بنسبة 80 بالمائة أن يتعلم أبناؤهم اللغة الإنجليزية و30 بالمائة الاسبانية و25 بالمائة الفرنسية. هذا ما يعلّق عليه بالقول: «من المدهش رؤية اللغة الفرنسية تأخذ مثل هذه النسبة». لكنه يؤكد بالوقت نفسه أن إجراء دراسات مماثلة في بقية بلدان العالم قد تعطي نسبا مشابهة تقريبا.

تتم الإشارة أنه إذا كانت هناك 7000 لغة للحديث والتواصل بين البشر في العالم فإن 200 لغة فقط تصنّف في خانة اللغات المكتوبة. لغات الحديث «الشفهي» من بينها 30 بالمائة في إفريقيا و33 بالمائة في آسيا و3 بالمائة فقط في أوروبا. نقرأ: «هناك القليل من اللغات المحليّة في أوروبا حيث تتواجد الدول الأكثر قدما والتي تبنّت سياسات مركزية لغوية. فرنسا هي المثال الأكمل لذلك». والمحصلة التي يتم التوصل إليها تقول: «رغم أن هناك لغات تزول تنقرض- كل يوم، فإن لغات أخرى (...) تولّد شيئاً فشيئاً لغات جديدة».

هناك إذاً لغات تموت ولغات تولد، أما التي تموت فهي دون شك كانت «أقل قوة وأقل مقاومة وأقل قدرة على الاستمرار بطبيعتها». مثل هذه الحالة تحاكي «الصراع من أجل الحياة». لكن أيضا هناك لغة «تتعرّض للقتل». من هنا تأتي أهمية تبنّي «سياسات لغوية» صحيحة، كما يقول المؤلف.

والإشارة أنه في القرن السادس عشر وأثناء فترة الثورة الفرنسية وخلال عهد الجمهورية الثالثة في القرنين التاسع عشر والعشرين جرى اتخاذ إجراءات صارمة من أجل تشجيع اللغة الفرنسية و«خنق» اللغات الأخرى مثل لغة الباسك والبروتون وغيرهم.

هذا الواقع يعرفه الجميع، لكن فرنسا تشجّع مع ذلك على الصعيد الدولي ما تسميه «التعددية اللغوية». وكانت فرنسا قد وقّعت عام 1992 ما يسمّى بـ«الميثاق الأوروبي للغات المحلية أو لغات الأقليات» الرامي لحماية التنوع اللغوي. أما سياستها على الواقع الوطني الفرنسي فهي عكس ذلك تماما.

من المسائل التي يثيرها المؤلف لويس جان كالفي معرفة العوامل التي تساهم في تزايد دور وانتشار بعض اللغات، والكيفية التي تدفع بعض اللغات «المعتبرة سابقاً ذات أهمية ضئيلة» إلى مقدمة المسرح. العوامل الأساسية في قياس «وزن اللغة» يتم تحديدها بمعرفة عدد الذين يتحدثون اللغة المعنية ودرجة انتشارها وموقعها من «اللغات الرسمية» العالمية وعدد الحائزين على جوائز نوبل للآداب من الناطقين بها وعدد الترجمات منها إلى اللغات الأخرى.