بين قوسين: الأفعال.. ومسمّياتها
أحدثت الانهيارات الكبرى والمنعطفات الحادة التي عصفت بالعالم منذ نحو عقدين، اهتزازات كبرى عامة وشخصية، أثرت بدرجات متفاوتة على معظم الناس والقوى والتيارات وحركات التحرر والدول والتكتلات، ونتج عنها لغط وفوضى وانعدام وزن ورؤية على الأصعدة كافة.. فتزعزعت المعايير وتسطّحت، وتداخلت المفاهيم، ولمعت في الواجهة الفكرية والسياسية والاقتصادية نظريات وطروحات جديدة أو متجددة لم يكن لها تأثير يُذكر قبل الانعطاف، لعل أبرزها نظرية «نهاية التاريخ»، والـ«نيوليبرالية»، و«حوار الحضارات» و«التعايش السلمي»... محاوِلةً إزاحة أفكار راح يتم وصفها بأنها «بالية» ومن بقايا زمن «الحرب الباردة»، مثل «الاشتراكية»، و«التخطيط المركزي» و«الصراع الطبقي»، و«الكفاح المسلح»، و«الأدب الملتزم»... وقد جذبت هذه «الموضة» الطارئة إلى مواقعها الكثير من القوى والحكومات «الثورية» و«اليسارية» بسبب الطبيعة الانتهازية لهذا «الكثير»، أو بفعل اليأس أو
ضيق الأفق المعرفي، فأحدثت تشوهات عميقة في بنيتها، سرعان ما تجلّت في خطاب قادتها وكوادرها ومنظريها السياسيين ومواقفهم وسلوكهم وحدودهم وبرامجهم، كما طالت هذه الموجة بأفكارها وإغراءاتها العديد من الشخصيات والرموز الثقافية والفكرية فطغت على ذواتهم ومبادئهم وجعلتها هشة، وعبثت بمنجزهم الإبداعي الذي راح يمالئ أو يناور أو يهادن أو يندفع باستسلام مع التيار..
والغريب أن جميع «المتكيّفين»، لم يخلعوا عن أنفسهم حتى الآن، ألقابهم أو صفاتهم القديمة التي لم يعد لهم أية صلة فعلية بها، بل ظلوا يتمسكون بها بصورة فصامية، كما لم تحاول معظم النخب الثقافية والإعلامية القيام بذلك، إما لتواطئها معهم وانسياقها إلى المواقع ذاتها، أو خشية من تبعات ذلك.
لكن، مع تراجع الهوج العاصف إلى حدوده الدنيا في السنوات القليلة الماضية، بدأت قلةٌ بطرح بعض الأسئلة الكبرى، وراحت تدعو إلى فتح نقاش واسع حول آثار العاصفة وما أحدثته من تحولات وانعطافات وتشوهات، وهو ما دفع وحفّز العديد من الجرائد والمحطات الفضائية بشكل متتابع لتناول هذه القضية من بعض جوانبها، ولكن بأسلوب عشوائي وانتقائي وغير معروف المنطلق والغاية، الأمر الذي راح يصطدم بحدوث اصطفافات معظمها وهمي، وتغلب عليه المناطقية والفئوية والحماسة العمياء لهذا الفريق أو لتلك الشخصية أو لذاك المبدع..
وقد دخل الفضاء الإلكتروني عبر المواقع التفاعلية في هذا الجدل، وأخذ رواده، وغالبيتهم العظمى من الشباب والمتثقفين، يخوضون نقاشات جدية حول بعض القضايا الأساسية مثل الانتماء والالتزام والتطبيع والصراع مع الإمبريالية والصهيونية والتحزب والصراع الطبقي... وغيرها.. ولكن دون الوصول إلى خلاصات بسبب غياب الإطار والمنهجية والتوثيق، واستمرار وجود المتحمسين العميان القادرين دائماً على التحول من محاورين إلى شتّامين وهجّائين.
ومع ذلك، فثمة ما يدعو للتفاؤل في سير هذا النقاش على سكته الحقيقية واقترابه أكثر من الموضوعية، ويأتي في مقدمة ذلك اتضاح الرؤية مجدداً، ودخول الرأسمالية العالمية في أزمة لا مخرج منها، واستعادة الكثير من الناس والقوى للأنفاس، وبروز الخط المقاوم في أكثر من جبهة مواجهة مع الإمبريالية والصهيونية العالمية، وتحقيقه بعض الانتصارات الأولية، وهو ما سيسرّع في وضع النقاط على الحروف، وتسمية الأشياء بمسمياتها.. لذلك فإن المستمرين في الاهتزاز والتيه سيتم فضحهم وتعريتهم حتى لو كان هناك من ما يزال يعدّهم رموزاً أو قادة أو مبدعين، ولن يشفع في هذا الإطار لأحد تاريخه وإنجازاته وإبداعاته ومواقفه التي سبقت الانهيار، بل ما يقدمه الآن في إطار احتدام الفرز مجدداً بين المتخاذلين واليائسين والمطبعين والمتلبرلين والمتصهينين من جهة، وبين المقاومين، حيث يبقى المعيار الأساسي للفصل بين الفريقين هو الموقف من قضايا الكادحين، ومن الصهيونية العالمية وحربتها المتهاوية «إسرائيل» ومن يتعاون معها أو يسير بركبها.. ويجب التنويه هنا أنه لا يوجد موقف «نص نص» أو «رِجل هنا، ورِجل هناك».. كما لن تجدي الشعارات والألقاب والصفات الاسمية الفضفاضة، فالأفعال وحدها هي الحكم..