غزة.. المكان الغلطْ في الزمان الغلط
حينَ نَبَتَتْ غزة كشجرةِ بُرتُقالٍ على ضِلعِ المستحيلْ، قبلَ آلاف السنوات، أتوا بعرّافةٍ مئوية، لتقرأَ لها مستقبَلَ رملِها، وتعطيها أمنيةً لتصبحَ مدينةً مثلَ باقي المُدُنْ، ولأنَّ غزة ولِدَتْ فقيرة، فلم تهتم العرافة بها كثيراً، فلم تلبس ثوبَها الذي تلبسه عادة في ولادة المدن الفخمة والكبيرة، وجهّزَت أدعيتَها ورقياتها، لكنَّ أمراً غير متوقَّع حدث فيما العرافةُ تنحني على وجه الطفلة غزة لتقبّلها، حرّكتْ غزة يدها فجأةً بعنف، فقلعت عين العرافة، فسال دم العين على وجه المدينة التي أخذت تبكي وتبكي، والعرافةُ تحتقن بالغضب، وعرف الجميع ممن حضر المشهد يومها، أن هذه المدينة ستتعبُ للأبد، وحين استطاعت العرافةُ أن تهدأ قليلا من ألم عينها المقلوعة، جففت الدم بجسد المدينة وقالت عبارتها: فلتكوني دائما في المكان الغلط والزمان الغلط، ولا تهدئي إلى يوم يرث الله الأرض، وانصرفت العرافةُ وخيطُ حقدٍ بنفسجيٍّ غامقٍ ينسلُّ من ورائها، ورائحة الغضب تتسرب إلى أنف الصغيرة غزة، فتملؤها بإحساسٍ لم تعرفه المدن الكبيرة ولا الصغيرة إلى اليوم.
كبرت غزة، درجت على البحر، تعلمت الكلام، ودائما كانت في المكان الغلط وفي الزمان الغلط، حكوا لها عن العرافة ونبوتها ودعوتها، فلم تهتم، أخذت تكبر وحدها، وأبناؤها يكثرون هنا وهناك، يتجادلون ويستقبلون الغزاة بسلاحٍ لم يتغير طوال التاريخ: الرفض، أهل غزة يرفضون بأسنانهم، هذا هو سلاحهم، وظلت المدينة تنتقل من مكان غلط إلى مكان أكثر غلطا، ومن زمان غلط إلى زمان أكثر غلطا، وكلما أخذها ملك إلى دائرة مدنه، سرعان ما يكتشف سخونة رملها وعواصف غضبها الذي تسلل إلى دمها من الخيط البنفسجي الذي تركته العرافة وراءها، فيتخلى عنها فالتا بجلده وجلد دولته من هذه المدينة التي لا يصدق أحد أنها مدينة، فقط غزة وحدها تصدق ذلك، أما البقية، فلهم روايات كثيرة عن غزة، أوردتها المدن الأخرى في كتبها، كل المدن تحقد على غزة لسبب تجهله المدن نفسها.
إحدى الروايات تقول إنها زوجة الشيطان، وأن الشيطان نفسه بعد أن تزوجها خاف منها فتركها، وبالطبع حاولت الملائكة بطيبتها المعروفة أن تخفف من وقع فعل الشيطان على المدينة الحزينة إلا أن الملائكة نفسها هربت بعد ساعة واحدة من نزولها، إذ بدأت تحس بتحول في روحها يسوقها إلى البعد عن ملائكيتها فتركوا غزة للريح والكحل وغادروا.
في رواية أخرى، أن غزة ألقاها البحر صدفة على الشاطئ، وأنها خرجت كمدينة رغم إرادة من يصمم المدن، فأصبحت مثل منفى لكل ما هو غريب في صناعة المدن، فكلما صمم مدينة وأراد أن يخلصها من غضب أو حقد أو دم، أخذ هذا من مدينته الجديدة وألقاه في غزة، ومع الوقت، ولأن غزة طيبة ولا تعرف كيف تكون المدن، ظنت أن هذا هو الوضع الطبيعي، وهذه الرواية بالطبع لم يؤكدها أحد.
روايات كثيرة موجودة بأصولها تحت رمل غزة، كل رملة فيها برواية، لم يأت أحد إلى كتب التاريخ إلا عبر مروره بغزة، من الإسكندر إلى نابليون، وغزة تستقبلهم وتعضُّهم من أكتافهم، كعلامةٍ على مرورهم بها، ويتركونها دائما لمصيرها ويرحلون غاضبين ويبدؤون بتأليف الروايات عنها.
ما زالت غزة إلى اليوم، تحقق نبوءة العرافة عن غلط الزمان والمكان، أهلها يتكاثرون وهي تضيق، يخبطهم الحزن من جهاتهم كلها، وهم غاضبون على كل شيء، غاضبون على قتل أبنائهم، غاضبون على حصارهم، غاضبون على أبنائهم الذين لم يقتلوا بعد، غاضبون على زوجاتهم، غاضبون من انقطاع الكهرباء، غاضبون من الروايات المفبركة، غاضبون في الأغنيات، غاضبون من الأغنيات، غاضبون من الديانات، غاضبون من أجل الديانات، غاضبون من إسرائيل، غاضبون من رام الله، غاضبون من الأمم المتحدة، غاضبون من القصف، غاضبون من التهدئة، غاضبون من البحر، غاضبون من أجل البحر، غاضبون من غضبهم، غاضبون من الكتابة، غاضبون من المعابر، غاضبون من المستشفيات، غاضبون، وبئر الغضب في غزة ممتلئ ويكفي الجميع حتى أولئك الذين لم يولدوا بعد.
غزة تعيش نبوة العرافة ربما، غزة قلعت عين الغيب ربما، غزة في المكان الغلط والزمان الغلط ربما، لكنها مدينة رغم أنف الجميع، مدينة تستحق الحب لا الشفقة، مدينة تستحق الفخر والاعتزاز، ببساطة لأنني لا أتصور أن مدينة أخرى كان يمكن لها أن تتلقى هذا الكم من الضربات على مدى ثلاثة آلاف عام، وما زالت تملك القدرة على الحياة والغضب والقتال، فالمكان هو الغلط والزمان هو الغلط، أما غزة، فهي الشيء الوحيد الصحيح في هذا الوقت المستعار.