خالدة سعيد ناقدة في حب الشعر
تواصل الناقدة خالدة سعيد في كتابها الجديد «فيض المعنى» ما كانت قد بدأته في كتاب «البحث عن الجذور» (1960) وأكدته في «حركية الإبداع» (1979) بناء مشروع نقدي يسعى إلى التأصيل لنقد لا ينحاز سوى الى الإبداع. وقد وجدتني في نشوة احتفائي بكتابها الجديد أتذكر عبارة كانت سائدة في ستينات القرن الماضي تقول إن النقد الأدبي إبداع وإن النقد الجديد بهذه الصفة ما هو إلاَّ إعادة خلق لما ينتجه المبدعون، لا سيما في حقل الشعر.
وإن النقد في مستواه الرفيع تلاقح بين موهبتين: موهبة المبدع وموهبة الناقد، وهذا في رأيي ورأي كثيرين ما يتحقق في الكتابة النقدية الفريدة التي تجلت في الإصدار الأخير للأستاذة «خالدة سعيد» وفي غيره من الكتب التي صدرت لها في هذا المجال، لقد وعت هذا المعنى أو الاتجاه في النقد الأدبي منذ وقت مبكر ومنذ كتابها الأول «البحث عن الجذور» الذي أثار جدلاً – يومئذ - وكان محل اهتمام في أوساط النقاد، والأكاديميين منهم بخاصة.
وتعود علاقتي بخالدة سعيد ناقدة من خلال هذا الكتاب «البحث عن الجذور»، فقد كان رفيقاً لي ولزملائي، مذ كنت في السنة التمهيدي للماجستير «أوائل السبعينات» بوصفه أول كتاب في النقد الأدبي الغربي يقيم علاقة حوار مثمر مع أحدث منجزات النقد العربي الحديث أو الأحدث، فقد أفادت من ذلك المنجز من دون التطرق في تنظيراته أو التخلى عن جذور النقد العربي واختلاجاته الأولى عند عبد القاهر الجرجاني وأمثاله من النقاد المتقدمين على عصرهم. ومنذ ذلك الكتاب المؤسس وهي تبحث عن أسلوبها الخاص في التناول الذي لا يُعنى بالشكل، على حساب المضمون، ولا بالمضمون على حساب الشكل وكانت بذلك الكتاب متجاوزة للسائد ومنطلقة إلى مشروع نقدي يقرأ النصوص الشعرية العميقة المستوى التي كان كثير من النقاد المجايلين لها يتهمونها بالغموض ولا يهتمون بإلقاء الضوء النقدي على الظواهر الفنية الجديدة المتمثلة في استخدام الرمز والأسطورة، ولا يشغلون أنفسهم بتأويل النص الشعري أو الإنشداد إلى الحديث عن ظلال معانيه وجمالياته الفنية.
ومن الواضح والثابت أن خالدة سعيد كانت مع الجديد، فقد ولدت معه وخرجت من صفوفه الأولى، وعايشت ميلاد مجلة «شعر»، لكنها رفضت بموضوعية وصدق أن تشارك من قريب أو بعيد في إثارة الغبار بين المتخاصمين المختلفين حول كتابة الشعر عموداً أو تفعيلة أو نثراً، إذ كانت ولا تزال تبحث عن جوهر هذا الفن في عناصره الأساسية، بعيداً من هذا الشكل أو ذاك، وكتاباتها النقدية، وإن تمحورت حول الجديد والأجد، تشكل بعداً كاشفاً لما يزخر به النص الشعري من أنساق مغايرة ورؤى جمالية تبعث الدهشة في نفس القارئ وتجعله مدلّهاً بهذا الفن القولي الذي يرسم العواطف ويتماهى مع الأشياء ويحرر الذائقة من أسر المألوف، ويسعى إلى تحصين الروح في مواجهة القبح والفراغ. ظهر هذا بوضوح في كتابها «حركية الإبداع» وتأكد أكثر في كتابها الجديد «فيض المعنى» الذي قال عنه أحد أساتذة النقد الأدبي الحديث في إحدى الجامعات المرموقة إنه أعاده إلى حب الشعر والانغمار في تأويلاته.
تلقي الناقدة الكبيرة في هذا الكتاب أضواء على تجارب عدد من الشعراء العرب في لبنان وسورية ومصر والأردن واليمن، ويتسم تناولها لهذه التجارب بقدر كبير من الموضوعية والمحبة، تجعل أكثر الناس عزوفاً عن الشعر وتذوقه لا يترددون عن الاعتراف بما للشعر، بلغته وصوره ورموزه ومحمولاته وشحناته الدرامية، من قيمة في الحياة. وهنا تكمن أهمية الناقد واقتداره على احتواء الفن الشعري والبحث فيه عن فيوض المعنى وما يكشف عن حيويته وشفافيته، وكيف تتحول نصوصه البديعة إلى لوحات مضيئة بألوانها وخطوطها. وهذه إشارة إلى بعض ما أنجزته خالدة سعيد في هذا الكتاب وما أضافته إلى النصوص المقروءة من فيض جماليات نقدها الذي يعيد إلى النص الشعري اعتباره وإلى النقد دوره، ويعيد القارئ إليهما معاً بعد أن كاد يهجر الشعر إلى غير رجعة.
تجليات مضيئة
منذ عقود، ومع اتساع دائرة التأثر بمناهج النقد الأدبي الأحدث تمدد النقد التنظيري وصار هو سيد الساحة، بينما تراجع النقد التطبيقي إلى الهامش. وهذا ما جعل الشعراء لا يكفّون عن الشكوى وعن الحديث صباح مساء عن غياب النقد وما تركه هذا الغياب من تخلف الإبداع وخفوت صوت التعبير الأدبي والشعري بخاصة لما يمثله من بكارة الرؤية الفنية للواقع بكل تجلياته المضيء منها والقائم، ولما يمثله الإبداع في حياة الشعوب بوصفه الوجه الحضاري الأقدر على نقل الإيقاع الأصدق والأعمق للتغيرات الإيجابية والسلبية على حد سواء. وهذا ما يجعلنا نُكبِر ونقدر للأستاذة خالدة سعيد مشروعها النقدي القائم على التطبيق وإبراز المواهب التي تجاهلها أو انشغل عنها نقاد التنظير.
وفي مقدمة كتابها الجديد «فيض المعنى»، إشارة جديرة بالتأمل والإنصات: «تنام القصيدة أو النص الإبداعي أو النص الإيحائي ولا تتجدد أو تنفتح ما لم تجد قارئاً حقيقياً، وتظل بانتظار قارئها أي فاتحها ومجدد مائها ومُحيي دلالتها». ولا أشك في أنها كانت في نقدها التطبيقي هي ذلك القارئ الذي يوقظ النص النائم ويعيد إليه تفتحه ونضارته. والدراسة الأولى في «فيض المعنى» كانت عن الإنجاز الشعري للشاعر أنسي الحاج الذي افتقده الشعر منذ أيام. وأجزم بأن الدراسة كانت بديعة ومنصفة فضلاً عن كونها تحيّة على درجة عالية من التقدير والإعجاب بشاعر كبير كان يحتضر من دون أن يقول لأحد إنه يحتضر، وسبق لها أن تناولت تجربة هذا الشاعر الكبير في كتابها «حركية الإبداع» بإعجاب مماثل، وبمقدار من التفصيل، فهي تكنّ لشعره تقديراً عظيماً.
ولا أشك في أن أنسي الحاج قد قرأ الدراسة الأخيرة باهتمام وحب، فقد لامست كثيراً من الزوايا والمنطلقات التي لم تُستكمل في كتاب «حركية الإبداع»، ومما جاء في الدراسة المشار إليها قول الناقدة: «جاء أنسي الحاج مباغتاً، ولا سيما في أعماله الأولى، «لن» و «الرأس المقطوع» و «ماضي الأيام الآتية». جاء لا يبحث عن التجديد من داخل الموروث الشعري وأركانه الجمالية؛ لا يبحث عن الانتماء ولا يرتاح إلى التطوير؛ بل يسعى إلى خلع الذاكرة وكتم الحنين؛ يخرج إلى التمرد واليتم؛ يطوي المراجع مرتحلاً في اتجاه صوت طالع من البّري والمقموع. وهذا مشروع مزعزع خَطِر سيبقى واقفاً على الحد، لأن الحنين والحنان، واللذين بقيا راسخين في الموروثين العربي والغربي، لا يظهران في أعمال أنسي الحاج الأولى إلاَّ مكتومين وحتى مخنوقين، ينفجران بين الحين والحين في شكل مفاجئ وسط سياق غرائبي عبثي مشفف بالسخر».
كما نجد بالإضافة إلى هاتين الدراستين دراسات أخرى عن تجارب عدد من الشعراء منهم : عباس بيضون، أمجد ناصر، وعبده وازن، وزليخة أبوريشه، وجودت فخر الدين وعبدالمنعم رمضان وآخرون.
المصدر: الحياة