ضريح الزمن الجميل
في غرفة نومي، بعد ليلٍ طويل، أمشي بخطوات متعثرة أفسدها طول الرقاد، نحو الشباك الكبير فأفتحه، أجمع أطراف الستارة الصفراء بحبلٍ قصير من خيوط القنّب. تتسلل الشمس، وصوت مذياع الجارة، ورائحة الخبز
أجدد نذوري لآلهة الذكريات في طقس صلاة يتكرر كل يومٍ. هناك في الزاوية اليمنى، إلى الأعلى قليلاً، باقة من الورود الجافة، تتدلى بعد أن ربطت بعارضة الشبّاك. هناك سبع ورداتٍ: وردةٌ مقابل كل يوم معه، الوقت لم يمهلنا سوى سبع وردات فقط، ذهب هو وترك لي بلاداً بأكملها كتذكار، ترك لي أصدقاءً، وشارعاً عبره، وبيتاً قديماً سكنه يوماً. وهو ذهب بحقيبة فارغة. أنظر إلى الورود الجافة وأتذكر كل شيء، من الوردة الأولى حتى الأخيرة.. تحاصرني الروائح في الغرفة الضيقة، وأبقى أنتظر أن يعود وتزهر الجدران بورودٍ جديدة.
إلى جانب باقة الورود الجافة، رجلٌ صغيرّ جمع جسده من خيوط بطانيةٍ بنيّة في معتقل، لم تتوقف السجون عن الاكتظاظ بالمعتقلين، ولم يتوقف المعتقلون يوماً عن صناعة التذكارات الصغيرة من بذور التمر أو خيطان الأغطية لأصدقائهم وعائلاتهم في الخارج. ذلك الرجل الصغير البني، فارغ الوجه، كان هديتي من صديق. بقي معلقاً على الجدار لأشهر، كما لو أنه تعويذة نجاة، أو مراسلٌ صحفيٌ صغيرٌ من قلب السجن.
على حافة الشباك الأسمنتية رمانتان صغيرتان جافتان، القطاف الأول من شجرة رمانٍ غرست في أرضٍ بعيدة لم أطأها يوماً، تخليداً لصداقة طويلة. كل صباحٍ أمام الشباك المفتوح أتأمل الثمار القرمزية الجافة، صك ملكيتي لتلك الشجرة وأفكر أن لي في هذا العالم من يستطيع احتمال مأزق أن يكون صديقي، يزرع أشجار رمان كي نصنع من ثمارها دبساً كثيفاً نضعه على أطباق سلطاتنا في السنوات القادمة من عمرنا..
على حافة الشبّاك أيضاً صحنٌ متناهي الصغر، هديةٌ أخرى لتخليد جميع احتفالاتنا، ورحلات البحث عن البهارات والتوابل في السوق القديم، وهناك نجمة بحرٍ كبيرة، آخر التذكرات من صديق جديد، أمسح عنها الغبار وأعيدها مكانها، تذكرني عندما تضيق بي الغرفة أو الحياة، وعندما ينعدم الهواء، أن للبلاد بحراً وشواطئ وأصدافاً ونجوم بحر.. وأن لي هناك بجانب البحر أصدقاء أقاسمهم الضحكات والأخبار والأحلام.
لم أنتبه أنني كنت أكدّس التمائم والتعاويذ على حافة الشبّاك يوماً بعد يوم، وأن في غرفتي ضريحاً للذكريات، هي حمىّ تجميد الزمن والاحتفاظ بأدلة ووثائق تثبت أن الحياة مازالت ممكنة. أمام هذا المذبح الصغير أدركت أنني ربما أضحي بالزمن قرباناً وأغرق في تمجيد الماضي بدلاً من الخروج من الغرفة الصغيرة، بحثاً عن تذكارات جديدة وأشخاص جدد. آن لرحلة البحث هذه أن تستأنف، سأحمل في حقيبتي نجمة البحر وحبات الرمان والأصداف والأزهار الجافة، وربما أترك بعضها عند المنعطفات كعلامات صغيرة كي لا أضل طريق العودة.