الرقص الفلسطيني المعاصر.. المقاومة بالجسد
في معظم المجتمعات القديمة كانت هوية الفرد تعرف من خلال الأشكال الفنية التعبيرية التي تدل عليه، كما في نماذج ملابسه ومطرزاته وزخرفة الجسم وزينته وعادات الرقص. فالرقص بحد ذاته يعبر بشكل كبير عن مؤديه بغض النظر عن نوع الرقص إن كان فلكلورياً أو غير ذلك. هناك العديد من أنواع الرقص، كلٌ له خاصيته ونمطه وأسلوبه ورسالته، وبالتالي فهناك العديد من أشكال وأنواع الحركة التي يتم اختيارها حسب رؤية المصمم وهدفه ونوع الرقص المستخدم.
لنأخذ الدبكة الشعبية الفلسطينية - كنوع من أنواع الرقص التراثي العربي عموماً- فهي تنتمي إلى نمط الرقص الفلكلوري الشائع في بلاد الشام، ولكنها تختلف في بعض التفاصيل إذ تظهر فيها ملامح محلية خاصة، تتنوع من موقع إلى آخر في فلسطين التاريخية. كما تميزت فلسطين في تسميته بفن المقاومة وأدب المقاومة. فللمقاومة أشكال متعددة، ولكل أسلوبه وطريقته الخاصة بالمقاومة، فالرّسام يقاوم بريشته وألوانه والكاتب بقلمه وفكره، والفلاح يقاوم بصموده في أرضه، والطالب والمعلم والطبيب والمهندس. الاحتلال يحاول دوماً طمس الهوية الفلسطينية وسرقة التراث الفلسطيني. وما نقوم به من خلال الرقص الشعبي، ولاسيما بعد النكبة والتطهير العرقي، يهدف إلى التمسك بهذا التراث ونقله من جيل إلى آخر. إن انفتاحنا على العالم بثقافاته المتعددة وتواصلنا مع تلك الثقافات يستوجبان امتلاكنا لهوية واضحة نعتز بها ونسعى إلى تطويرها باستمرار، من خلال الحوار مع ثقافتنا العربية والثقافات الأخرى.
ولكن هل توجد طريقة واحدة لتقديم الوجه الثقافي الفلسطيني للعالم؟ باعتقادي هناك عدة طرق نستطيع من خلالها «المقاومة فنياً بالرقص». ومن قال إن الدبكة الشعبية هي الطريق الفني الوحيد لذلك؟ فلماذا لا يمكننا أن نحافظ عليها ونستوحي من تراثنا ومخزوننا الثقافي من جهة، وأن نقدم أيضاً فناً معاصراً يعبر عن قضايانا المعاصرة ويقاوم محتلنا من خلال رقص عربي- فلسطيني معاصر من جهة أخرى؟ المهم أن لا ينفصل مشروعنا الإبداعيّ عن المشروع الوطني وألا ينقطع عن الجذور الثقافية الفنية التي نما منها. المحك هو أن ننجح في الجمع المبدع والخلاق بين الأصالة والمعاصرة.
ولكن ما هو مفهوم الرقص المعاصر؟ وهل يمكن نسبه إلى منطقة جغرافية محددة، أم هل هو بلا «لون» وطني؟ هل يوجد تكنيك واضح للرقص المعاصر كما في الباليه الكلاسيكي الغربي مثلا؟ بالتأكيد لا توجد له هوية واحدة. ولا أعتقد أننا نستطيع تعريف شكل محدد لنمطه الحركي، فربما يتأثر بجميع اللغات التي تحتك به والتطورات التي تعاصره. بدأ الرقص المعاصر يأخذ موقعه بين أشكال الرقص السائدة في مجتمعاتنا العربية مؤخراً، مما أثار جدلاً حول الأصالة والمعاصرة وأسئلة متشابكة حول التقليد والتجديد. فهل يصلح أن يكون الرقص المعاصر واحداً في كل مكان؟ أين الطابع العربي الخاص؟ أين أوجه التشابه والاختلاف عن الغرب؟
في كانون الأول من العام 2009، كنا (زميلتي في فرقة الفنون*، نورا بكر، وأنا) في هولندا لإعطاء ورش في مجال رقصنا الشعبي الفلكلوري، وقمنا بتقديم عروض فنية (رقص معاصر) ضمن مشروع فلسطيني، أردني وهولندي. كما قمنا بمشاهدة عدد من فرق الرقص المعاصر هناك. وخلال شهر شباط 2010 قمت بحضور مهرجان بريطاني للرقص المعاصر، شاهدت خلاله عدداً كبيراً من فرق الرقص المعاصر الأوروبية بالأساس. خلال تلك الفترة تبين لي مدى الاختلاف في مفهوم الرقص المعاصر بيننا كعرب فلسطينيين وبين بعض الشعوب الأوروبية. فما نؤديه من رقص معاصر يحمل بالضرورة فكرة وقضية تعبر عن مجتمعنا وقضيتنا، تجسد معاناتنا وتجسد مرحنا، تُجاري ثقافتنا وتُجاري تعليمنا وتظهر فننا كوسيلة تعبيرية تحمل فكرة ليس فقط تقنية استعراضية دون مغزى! لذا فهو رقص فلسطيني معاصر.
إن تخصيصه كرقص عربي- فلسطيني ينبع من اختلافنا، اختلاف ثقافتنا ومجتمعنا وأساليب تعبيرنا المعاصرة. كما لا يمكن لما نقدمه من رقص معاصر أن يكون معزولاً عما يجري من حولنا وفي عالم الرقص الواسع بشكل عام. الاختلاف لا يعني التناقض ولا التناحر ولا الانعزال، فقط يعني الخصوصية والهوية الخاصة المتواصلة بشغف ومثابرة مع العالم.
لا بد أن يكون لنا طابعنا الخاص في التصميم المعاصر وفي الأداء، وألا يتحول تأثرنا بالتقنيات الغربية المتطورة إلى تقليد أعمى للغرب، فالنمذجة تقتل الإبداع كما قال «باولو فريري» فليس كل ما يقومون به جميلاً ورائعاً، ولا نحن فقراء فنياً لا حول لنا ولا قوة! فنحن شعب مبدع فنياً ولدينا العديد من الطاقات والإمكانات أيضاً. لذا لا بدّ من احترام تفكيرنا وتطوير أدواتنا وتحدي صعوباتنا والابتعاد عن التماهي مع الغير إلى درجة فقدان الذات وفقدان الهوية. فما بالكم إذا كان عدونا لا يعترف بحقوقنا وهويتنا. فلدينا دبكتنا الشعبية التي نعتز بها ونحترم تمسكنا بها، كما رقصنا التعبيري المعاصر بطابعه الفلسطيني.