موريس غودو لييه في كتابه (لغز الهبة)
«ليست الحرية, كما قد تبدو من أصل الاسم, إعفاء من كل القيود, بل إنها في الواقع أكثر الاستخدامات فعالية لكل قيد عادل على كل أعضاء مجتمع حر, سواء كانوا حُكّاماً أم رعايا»
آدم فيرجوسون
هل يمكن تخيل طفل يتعاقد مع والديه ليولد؟ وهل يمكن له أن يختار مكان وزمان وطريقة ولادته؟ إنها فكرة مُنافية للعقل. وتُبيّنُ منافاتها للعقل إن أول رابطة بين البشر, أي رابطة الولادة, غير متعاقد عليها بين المعنين بها. ومع ذلك, ينزع مجتمعنا إلى أن يضرب صفحاً عن مثل هذه الوقائع التي لا يمكن تفاديها.
ولكن ولادة الدستور في أي أمة هو عملية معقدة وصعبة يُسهم فيها جميع أفراد الشعب الأحياء منهم والأموات. هل يولد الدستور من رحم الأمة ولادة طبيعية, أم أن ولادته تحتاج إلى عملية قيصرية؟ ولمن تعود ملكية الدستور بعد ولادته؟
يحاجج الفيلسوف الفرنسي موريس غودو لييه في كتابه (لغز الهبة) بأن الدستور أو العقد الاجتماعي المبرم بين أفراد المجتمع الأحرار ليس ملكاً لأيّ فرد بحدّ ذاته. إنه ملك عام- وملكيته غير قابلة للنقل, وبالتالي البيع أو الشراء- لجميع أولئك الذين يخضعون له لأنهم اختاروه وأقرّوه بالتصويت الحر. ولكن لكي يتم ذلك يجب أن يتصرفوا كمواطنين أحرار, لا كرعايا خاضعين لسلطة فرد يكاد يتمتع بالحق الإلهي في الحكم. وتتشكل الهيئة المؤسسة - أي دعامة الدستور- من جميع المواطنين الأحياء منهم والأموات الذين توالوا على أرض الأمة منذ أن نصّب الشعب نفسه للمرة الأولى سيّداً ومصدراً للقوانين. وقد برزت هذه الهيئة كما يؤكد موريس غودو لييه –على الأقل في وطنه- مع الثورة الفرنسية ومع تشكل اول مجلس تأسيسي. واستمر وجود هذه الهيئة منذئذ بشكل من الأشكال عند السواد الأعظم من أمم الأرض. وقد يتغير الدستور وتأخذ الدول أشكالاً متنوعة من الملكية الدستورية إلى الجمهورية. لكن تبقى الهيئة نفسها مستمرة خلف كل تغيّرات الدستور هذه. فالهيئة المؤسسة للدستور هي واقع جماعي غير قابل للتقسيم, و واقع فكري ومادي لا زمني يعبر الزمن, وهو لن يزول إلا إذا زالت الديمقراطية لفترة طويلة. فالأمر لم يعد يختص بهيئة فرعونية أو هيئة إلهية وإنما بهيئة شعب سيّد ممثَّل ومتجسد بصورة مؤقتة في رئيس للجمهورية. ويصبح رئيس الجمهورية بعد أن تنتخبه الأغلبية من الأمة رئيساً لجميع المواطنين الأحرار في الدولة. ويصبح لبضع سنوات حامي الدستور ورمز الجمهورية. كما يضعه منصبه فوق الأحزاب وفوق النحل والطوائف والملل, فهو يجسد مؤقتاً وحدة وهوية الكل , أي الأمة التي تُعتبر الدولة أداة لها لا تجسيداً لها. إنه يصبح الوتد الذي تدور رحى الأمة حوله. وبعد برهة من الزمان يُستبدل هذا الوتد بآخر لتستمر رحى الأمة في دورانها.
فالدستور الذي يؤسس حقوق الأفراد جماعي بجوهره. إنه ملك عام لجميع أولئك الذين يعيشون تحت سيادته ويسلّمون به كدستور لهم وكملكية غير قابلة للبيع أو الشراء. إنه هبة يقدّمها رجال ونساء أحرار لأنفسهم, وهو لا يؤسس علاقاتهم الحميمة وإنما علاقاتهم الاجتماعية العامة. لقد أصبحت الدساتير التي أعطتها الشعوب لأنفسها معادلة بشكل ما للأغراض المقدسة التي كان يعتقد البشر أنهم تلقوها من الآلهة لتساعدهم على العيش معاً وبشكل جيد.