دقائق بلا حياء.. ولا خوف
لكلٍّ طريقته بالاحتفال في عيد ميلاده؛ هذا يحضّر لوليمة عشاء فاخرة يختار المأكولات والمشروبات التي حُرِمَ منها طيلة شهور. وتلك تدعو شلّة من أصحابها على قالب كاتو وتبّولة وفطائر وما لذّ وما طاب.. يسهرون ويغنّون ويرقصون ويضحكون, وتتقبّل الهدايا منهم. والبعض الآخر، وربما هم الأغلبية في هذه الأزمة التي تعيشها سورية، لا تعنيهم هذه المناسبة إلا ما تعنيه لجدّي القابع في أعالي الجبال، تعلّم اللغة الصينية..
قررتُ بيني وبين نفسي اختيار طريقة لا تكلفني أكثر من ثمن باقة فجل في عيد ميلادي، أمارس من خلالها حريتي بالتصرف والقول ولو لدقائق، أتحدّث على سجيّتي دون أية ضوابط أو قيود. وأرسم بسمة على الوجوه المتعبة إن استطعت إلى ذلك سبيلا..
نهضتُ صباحاً، حلقتُ وتحمّمت، وارتديت أجمل ما أملكه من ثياب، وانطلقت إلى الشارع أفكّر كيف وأين يمكنني تنفيذ ما عزمتُ عليه. وما هي إلا لحظات حتى وجدتُ نفسي أقف بين جمهرة من الناس ينتظرون قدوم باص النقل الداخلي.
لدى صعودي الباص كان الازدحام على أشدّه. جميع الركاب صامتون وسط همهمات ضجرة من بطء سير الباص بسبب اكتظاظ الشارع بالسيارات.. وبينما كنت أتسلّل بصعوبة للوصول إلى منتصف الباص، رنّ موبايلي (تعليمة) من زوجتي لتذكّرني بتعبئة وحدات رصيد لها قبل عودتي إلى البيت. قلتُ في سرّي (إجت وألله جابا) سحبتُ الموبايل من جيبي ووضعته على أذني متظاهراً بالردّ على المتصل، وصحتُ متصنّعاً الغضب بصوتٍ جهوري:
( ألو..؟ ألو..! وينك وليه.. قلتلّك طالق يعني طالق.. شو إنتِ ما بتفهمي؟ ولك آخ لو فيني طلّقك بدل التلات طلقات، ألف طلقة.. الحق عليّي اللي قتلت الصرصور اللي كان يخوّفك بالمطبخ.. أصلاً لازم كون حطّيت معه فاره، حتى تعرفي يا بنت حوّا أنو ما إلك غنى عنّي..)
كل من حولي أصاخ السمع بين مستغرب ومتعجّب ومبتسم ينصت متلهفاً لسماع المزيد وأضفت: (أقسم بربّ العباد إذا رجعت عالبيت وشفتك فيه.. غير بإبرة الخياطة ما رح انخزك..) وهنا انفجر بعض الواقفين قربي ضحكاً. وأحدهم صفّق بيديه متمايلاً كرقّاص الساعة، وضرب البلّور برأسه من شدة الضحك وقال لي: «يا رجل ما شفت غير هالطريقة لمعاقبتها؟»
تظاهرتُ بأني لم أسمعه وتابعتُ بمنتهى الجدّية: ((ولك آخ بس لو ما في ناس بجنبي، لكنت حكيت على حرّيتي.. شايفة قمعك لوين وصّلك؟ ما بيكفي النظام صرلو مخرّسنا عقود.. لسّا إنتِ؟ ( ..) فاصل قصير من الصمت، وكأنني أتلقّى ردّاً، ثم صرختُ بأعلى صوتٍ متاح لي:
(بدّك تشتكي عليّي للمخابرات؟ ولك شو يعني إذا كان أخوك بالمخابرات؟ انشالله مفكّرة إني بخاف منّه؟ ولك أنا ما بخاف إلا من اللي خلقني.. فهمتِ واللا شو؟ ...
لحظات من الصمت أراقب من خلالها ردود أفعال الركاب وأتابع: (( بتعرفي؟ عم فكّر أكتب على بلوزتك من ورا عبارة «داعش تمثلني» برْكي بياخدوكي وبرتاح من خلقتك كم شهر.. ولا بين ما يعرفوا حقيقة الأمر.. بيكون صار وزنك قدّ نصّ وزن المرحوم غاندي..)).
فجأةً غابت البسمة عن أغلب المحيطين بي. انكمش البعض مرتاباً وتململ البعض الآخر، وكأنهم يبحثون عن منقذ. تابعتُ متقصّداً عودة البسمة إلى الوجوه: ((وينك وليه سفرجلة.. قبل ما تنقلعي من البيت، اسلقيلي بيضتين وحبة بطاطا مالحة من هاي الغالية، وحطّيلي جنبها رغيف خبز طري من هاد السياحي. غنّجيني شويّة.. خلّيني اتذكّرك بشي شغلة منيحة.. هلكتي سمايي بالخبز البايت، وانتِ ما بتتزقّمي غير الخبز الطري.. لَكَنْ يا عمّي أكابر..)
بعض الركاب بدأوا يتهامسون، وبعضهم أشار بأني مجنون أهلْوس، والبعض الآخر فضّل عدم النزول لحين انتهائي من مكالمتي المزعومة وكأنهم في مشهدٍ مسرحي. واصلتُ بعد أن أشبعتُ حاجتي من التعبير عمّا يجول في خلدي: (قهقهقه.. ولك يا غشيمة عم بمزح معك.. ما حلّك تعرفي أفلامي؟ أي العمى والله ما بّدّلك بنسوان الأرض، ولا بحوريّات الجنة. ليكي حبيبتي نص ساعة وبكون عندك.. وحياتك ما برجع عالبيت إلاّ ومعي دوا للصراصير متل ما وصّيتي.. يالله حياتي باي..). أسدلتُ الموبايل عن أذني ووضعته في جيبي وتأهّبت للنزول منشرحاً، كمن استيقظ من حلمٍ لذيذ يتمنى أن يراه ثانيةً، وسط همسات من التعليقات المتنوعة.. وتناهى إلى سمعي قول أحدهم وهو يضحك: «بقصّ إيدي إذا هالرجل ما عم يعبّر عن 90% من سكان هالبلد..! ولك يسلم تمّك يا أصيل..»