قصة الزنجي المطيع
كان ذلك منذ أكثر من ثلاثين سنة، اجتمعت وقتها مجموعة خاصة من رجال الشرطة وحفظ النظام وحتى رجال الإطفاء في مدينة فيلاديلفيا الأميركية، تحلقوا حول أحد عشر رجلاً وتسعة أطفال وبضع نسوة والجميع أسود البشرة، لم يكن المصطلح وقتها «أفريقيين – أميركيين» لقد كانوا وقتها مجرد «زنوج» أو كما يقولون هم «Negros»، هذه الكلمة التي تعتبر اليوم من الشتائم التي تستحي أي جهة إعلامية من النطق بها، رفعت الجموع من تلك القوات أسلحتها باتجاه تلك «المجموعة السوداء» وعبارات العنصرية المقيتة تقطر سموماً من شفاههم وأمام العدسات التي تلتقط كل حرف منها.
لم يمض وقت طويل وصدر القرار، اتخذ حاكم ولاية بنسلفاينا أقصى الإجراءات بحقهم، التهمة كانت واضحة: «الانتماء لجماعة Move غير القانونية»، تمت تصفيتهم جميعاً بدم بارد، ثم أحرقوا 71 منزلا في الجوار عن طريق رمي القنابل عليها تاركين سكانها «الزنوج» في الشارع، إنها مرحلة قاتمة من التاريخ الأميركي الملطخ بدماء الحقد العنصري، لكن ما يميز هذ الحادثة أن صدور هذا القرار الوحشي جاء من مكتب أول محافظ منتخب أسود البشرة في تاريخ هذه الولاية، توقع الجميع من المحافظ بعض التعاطف مع أبناء جلدته، لكن لا، لقد أراد أن يكون «زنجياً مطيعاً» لرؤسائه!
«فلتشتعل النار»..
عادت هذه الحادثة إلى الأضواء اليوم مع ظهور فيلم وثائقي أميركي جديد يدعي «فلتشتعل النار!»، كانت هذه التصفية القبيحة التي جرت صيف عام 1985 حديث هذا الفيلم الأساسي، وبطلها هو «ويلسون جود»، أول محافظ أسود في تاريخ الولاية، تروي أحداث هذا الفيلم نشاطه الدؤوب للحصول على ختم الموافقة من «الرجل الأبيض»، وتفتح المجال لكثير من المقارنات مع تسلم أول رجل أسود مقاليد الحكم في أمريكا، وما يجمعه من صفات مع «ويلسون» هذا، إنها تقدم دروساً عن أمريكا وغيرها عندما يتم غفران الفظائع التي يمكن أن يرتكبها الرجل الأسود، من قبل جمهوره الأسود، فقط لأنه أسود في أعلى الهرم.
بالعودة إلى الوراء، كانت الأمور دائمة التوتر بين أعضاء حركةMove من السود الأمريكيين والسلطات المدنية، كانت هذه الحركة من أكبر التجمعات المطالبة بالمساواة بين البيض والسود، وكانت حاضرة للحديث عن معظم القضايا التي تهم مجتمعاتهم الفقيرة، أختار أعضاؤها جميعاً أن يحملوا الاسم Africa أو إفريقيا لاحقاً لاسمهم الاول، كما فعل مؤسس هذه الحركة John Africa .
بدأت القصة بحقد عنصري من قبل الشرطة قوبل بضرب أحد عناصر الشرطة المرموقين وسحله في الشارع، يتم الحكم على بعض أعضائها بالسجن لمدة مائة عام!! لكن أعضاء الحركة ظلوا تحت المراقبة اللصيقة، لتأتي هذه الحادثة الفظيعة المنقولة على وسائل الإعلام آنذاك فترمي الزيت على النار، لم يخف أي من عناصر الشرطة وقتها احتقارهم لأولئك «الزنوج» وتفوهوا بأقذع الإهانات، كما أن المسؤولين الرسميين وقفوا أمام العدسات وأظهروا احتقاراً غير مسبوق لنمط حياة أولئك «الزنوج» وشجعوا عملية إحراق ذلك المجمع السكني بالقنابل دون أي رحمة.
الشرير الأكبر..
الشرير الأكبر هنا هو «ويلسون جود»، يعرض الفيلم مقاطع من مقابلة أجريت معه فيما يتعلق بهذا الأمر، تنقلت أقواله بين تحمل جزئي للمسؤولية، ثم أعلن أنه لم يكن على علم بكافة تفاصيل الحادثة، قال إنه لم يكن على علم بأن القنابل ستستخدم هناك، لكنه انتهى بكلام مقتضب يفيد بكل وضوح بأن هذه الأمر هو فكرته منذ البداية. على كل حال لم يعن الأمر كثيراً للناس، ماتت قيادات تلك الجماعة في الحريق، دمرت بعدها البيوت، فأعاد الفقراء من أبناء المنطقة بناءها لكنها لم تتحمل العواصف فهجروها.
يعلم ويلسون ماهي القاعدة الأساسية في السياسة الأمريكية العنصرية، الرجل الأبيض في أعلى السلسلة، وهو لا يمتعض من قتل السود، وحتى السكان الأمريكيين من أصل مكسيكي أو آسيوي، وعلينا إرضاءه حتى لو كلف ذلك بعض السخط الشعبي من جمهوره. هذا ما حدث، وياللعجب، تمت إعادة انتخابه من قبل السود قبل البيض في ولايته!! عندما ترشح مرة ثانية في العام 1987، لم تجف دماء السود في فيلادلفيا وقتها بعد، لكن منافسه كان عنصرياً إلى درجة لا تطاق، تحلق السود حول «ويلسون»، فهو أسود..! وفي السلطة، يبدو أفضل من منافسه بكثير، تناسى الجميع قصة حركة Move ، يرغب الجميع رؤية وجه أسود في السلطة، وهم مستعدون لغفران الكثير من الأخطاء له، يعلم الرجل الأبيض ذلك، فقد حدثت ردة فعل عنيفة لهذه الجريمة في مدن: تولسا، أوكلاهوما، هلينيا، أركنساه، فلوريدا وغيرها الكثير، وقوبلت برد فعل عنيف من السلطة، لكن لم يرتكب رجل أبيض ما فعله «ويلسون جود» من فظائع، لأن الرجل الأبيض سيتهم فوراً بالعنصرية وسيحاسب حساباً عسيراً شعبياً ورسمياً، لكن الوجه الأسود لـ«ويلسن» سيخفف من وطأة أعماله على الجمهور الأسود الغاضب التواق لأي شكل من أشكال التمثيل الأسود في السلطة.. هذا التوق الذي ما زال حاضراً إلى يومنا هذا.
بازار الحقيقة المشوهة..
باع الكثيرون من الأفريقيين- الأمريكيين أرواحهم وعقولهم لخدمة هذه الحقيقة المشوهة. لا مانع من رؤية بعض أعمال العنف التي كانت حكراً على البيض من الأمريكيين، لا مانع من تذوق طعم السلطة والإحساس بقوتها حتى بطشت بالأمريكيين أنفسهم، فجاء تكليف أوباما بالرئاسة الأمريكية ليخنق النشاط السياسي للجالية السوداء في أمريكا، أصبح الناشطون السود أصحاب مئات القضايا المتعلقة بالتفرقة العنصرية وأزمات الاقتصاد والمعيشة يهزون رؤوسهم بالموافقة على كل شيء، لقد أخذوا يدافعون عن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وحروبها الخارجية وكأنهم تحت مخدر «أسود» قوي، بعد أن كانوا من أشد المعارضين لها. لا يختلف «باراك أوباما» كثيراً عن «ويلسون جود»، إنه «الزنجي» المطيع الذي يستطيع إرضاء الرجل الأبيض وخداع محبيه السود، لكنه يلعب لعبته هذه في مستويات تفوق تفكير «ويلسون»، إنه من القلة القليلة التي تحكم العالم ببطش وجشع، أما «ويلسون»، فهو اليوم في خدمة الكنيسة، لقد أصبح قسيساً بعد أن انتهت ولايته الثانية وحصل على شهادة الدكتوراه في علوم اللاهوت. يظن البعض أن الندم قد دفعه لفعل ذلك، لكنه في الحقيقة حقق أرباحاً هائلة من خلال جمعياته الخيرية المخصصة حصراً لـ«تحسين معيشة مجتمع السود في أمريكا»!!