المثقف والأزمة!؟
يلعب العاملون في الحقل المعرفي بكل جوانبه دوراً أساسياً في ظل الأزمات، بغض النظر عن مدى امتلاك الأدوات المعرفية من عدمها، فيكفي أن يطلّ المثقف (كاتباً، فناناً، ممثلاً، سياسياً...) على الجمهور من الشاشة الفضية، أو وهو جالس في حضرة «الكيبورد» ليفعل فعله
بعد أن أوصلت الأزمة هذا الكائن الاجتماعي (الإنسان) إلى مأزق الأسئلة ذات الطابع الوجودي. والحال هكذا، تصبح الغريزة حاضرة، وعندما تسود الغرائزية يمكنك أن تلقّم المتلقي ما تشاء، على الأقل في تلك الأوساط غير القليلة التي أجهزت الأزمة على عالمها المادي أو الروحي، لتدمرّ بيتاً ما يزال (ذلك المتلقي) يدفع أقساطه، أو لتبقيه في برزخ انتظار حبيب غائب، أو تحلل دم أبيه أو إخوته أو أي من أعزائه، على مذبح الدفاع عن الوطن الافتراضي، أو الثورة المفترضة.
في هذه البيئة النفسية، يمكن لما يسمى بـ(المثقف) أن يطعمك سُمّاً محلّى، ويقنعك أنه عسل، ويقيم عليك حد الكفر حتى لو كنت من المبشرين بالجنة، أو يصنّفك خائناً حتى لو كنت ممن حمل سيفه وراح يواجه مدافع غورو. ويمكن لهذه الأمّعة/ المثقف في هذه الحالة، أن يرفعك إلى مرتبة الأولياء حتى لو كان (وطنك جيبك)، والثورة بالنسبة لك (سمسرة وثرثرة).
أغلب المثقفين السوريين- والمصطلح هنا مجازي لأنهم أٌقرب إلى الأمّعات، أكثر من قربهم إلى أي شيء آخر- انساقوا وراء الانقسام المشوه في المجتمع السوري، انقسموا ما بين مؤيد ومعارض بالطريقة التي أرادها الإعلام، وليس كما يتطلبه الواقع الموضوعي، وأصبحوا جزءاً من هذا الانقسام، وأصبحوا دعاته، وفقهاءه، ومنظّرين له، لا وبل أحد مولداته.
بين التوصيف والتحليل
السمة الأساسية والمشتركة لخطاب هذا الرهط من المثقفين من هنا وهناك، هو توصيف الواقع كما هو، ليمضي كل «خندق ثقافي» في دك حصون الآخر بما امتلك من (حقائق). وكانت أبشع مظاهر التوصيف هذه تلك التي أخذت منحىً غرائزياً يغيّب العقل.. فإذا كان توصيف الواقع ضرورة لابد منها، فإنها غير كافية، إذا لم تقترن بالتحليل، وإذا لم تؤسس لتغيير الواقع المعاش بكل آلامه، ولاسيما أن البلاد على وشك أن تُصلب، لابل أن الاقتصار على التوصيف وحده في مثل هذه الحالة، يصبح جزءاً من المشكلة، وامتداداً لها، وخصوصاً ذلك النمط من التوصيف الذي يأخذ طابع البروباغندا.
مهمة الثقافة والمثقف السوريين، وخصوصاً في ظل أزمة كهذه، هي أن يلعبا دوراً نقدياً تجاه كل أسباب الحالة المرضية السرطانية التي تفتك بخلايا الجسد السوري، وأن يربطا بين المقدمات والنتائج، ويستنتج طريق الخلاص لا أن يبرر سلوك هذا الطرف أو ذاك بكلّيته، طالما أنه منحاز للعقل والمعرفة، ويمتلك الحس العالي والمسؤولية الوطنية والأخلاقية كما يفترض، كأقانيم ثلاثة تميز المثقف الحقيقي عن مدعي الثقافة ممن أنتجتهم فترات الانحطاط في ظل سيادة ثقافة المجتمع الاستهلاكي على مدى عقود، والذين تلمّعهم وسائل إعلام الأزمة، التي طالما لعبت دوراً تضليلياً على امتداد أعوامها الثلاثة.
من مفارقات المشهد السوري أن الوعي الشعبي السوري تجاوز وعي هذه الفئة الطارئة على الثقافة، فلم ينجر إلى ما تسوّقه هذه النخبة، وذلك بدلالة ما يتلمسه كل ذي بصر وبصيرة في الأوساط الشعبية، وما تبثه بعض صفحات التواصل الاجتماعي عن شاب في مقتبل العمر يصرخ بملء أوجاعه ضد العنف من كل الأطراف، أو امرأة تكابر على جرحها بعد أن فقدت أحد أبنائها وتقول: «كفى..!»، لتؤكد أنها تفهم في علم الاجتماع أكثر من أصحاب الياقات، وأكاديميا «بيزنس الثورة»، و«وطنيو الأزمة». وإن هذا الوعي هو الذي ينبغي أن يسود في الخطاب الثقافي السوري المنطوق منه والمكتوب بجوانبه الفنية والأدبية والسياسية..