الأعداء الحقيقيون
استمد العديد من السوريين، طيلة السنوات الثلاث الماضية مقاييسهم للخطأ والصواب، الخير والشر، وما «يصح ولا يصح» في السياسة، من وسائل الإعلام على مختلف اتجاهاتها (بوصفها لسان القوى السياسية والاقتصادية المالكة لها)، واستمعوا بصبرٍ إلى إرشادات وتوجيهات السياسيين الذين أعلنوا أنفسهم «أصدقاء» الشعب أو «حماته»
وبالرغم من أن سطوة تلك القنوات تراجعت شيئاً فشيئاً بعد كل تغطية إعلامية «هزيلة» لحدثٍ جديد، وسقطت الأقنعة عن وجوه الكثير من السياسيين. بالرغم من أن الوعي ازداد عمقاً، بعد أن بدأ المرء يحلل، يشكك، يقارن، ويستعيد شيئاً فشيئاً وضوح الرؤيا متجاوزاً ستار الضباب والخوف، إلا أن الكثيرين مازالوا يحتفظون، ربما دون أن يدروا، بتقييمات تلك القنوات، وتقسيماتها «لفريق الأخيار والأشرار». ما زالوا يستعيرون أقلام تلوينها الرمادية والبيضاء والسوداء كي يلوّنوا لوحة المشهد، دون أن يمعنوا النظر حقاً في الواقع الملّون، المعقّد.
قد لا يصعب تفسير السبب الذي جعل المواطنين يحتفظون بتلك الصورة الذهنية للأخيار والأشرار المستمدة من القنوات الإعلامية وخطابات السياسيين، فالصور الذهنية عادةً ما تتسم بالثبات والرسوخ وتحتاج وقتاً طويلاً حتى تتعدل وتتغير. هذا ما يجعلها ربما الأكثر خطراً.
إذا ما أمعن السوري اليوم النظر حوله، ووثق بحدسه الداخلي، وتراكم خبراته الممتدة على سني حياته، والتي أمست أكثر غنى في السنوات الثلاث «النوعية» الماضية، إذا ما وثق السورّي بدروس التاريخ وبما تراه عيناه، سيكتشف أعداء جديدين، أعداءً حقيقيين، لم تتحدث عنهم وسائل الإعلام، أو مرّت عليهم مروراً عابراً.
سيرى تجار الحروب والأزمات الذين باعوا« الوهم»، واستغلوا جوع الناس وبردهم وخوفهم. سيعترف بأولئك الذين سنّوا القوانين التي «تشرعن مصالحهم» وتسهّل عملهم بحجة تطبيق «حكم العدالة» أعداء له. سيتذكر أولئك الذين امتلكوا «مفاصل الطرق»، وسهّلوا تجارة الأعضاء وحوّلوا البلاد خلال زمنٍ قياسي إلى أكبر مصنّع ومصّدر للحبوب المخدرة في المنطقة.
سيتأمل السوري أولئك الذين حافظوا على نظافة ثيابهم وأيديهم من دماء الحرب، واكتفوا بتوثيقها وتأجيجها من خلف عدسات الكاميرا وقاعات المؤتمرات، أو أولئك الذين لم ينفكوا يوماً يندبون سكان الخيّم وهم أحياء، فيما يتمنون في قرارة أنفسهم ألا يقل عدد الخيم خيمةً أو يتحرك الوتد متراً ً كي لا يفقدوا « مصادر التمويل» أو «كادر الصورة».
سيتذكر الذين وعدوا الناس «بالخلاص» و«النصر» و «الجنة» و«الحسم» ودفعوهم إلى الموت بالرغم من أنهم يدركون أن الليل طويل والطريق صعب. سيكتشف أن الأعداء كثر، يجيدون التنكّر، إلا أن تحديدهم وكشفهم بعيداً عن التصنيفات المسبقة ولون اللباس الذي ارتدوه أو العلم الذين انضووا تحته، هي اليوم الخطوة الجوهرية الأساسية والأهم، دونها ستكون جميع الحروب خاسرة، وستظل المعركة خبط عشواء، وسيظل الرمل يملأ العيون