عم نجم.. شاعر الفقراء

عم نجم.. شاعر الفقراء

امتلك «أحمد فؤاد نجم» بجسده الطويل النحيف وملامحه «المصرية» وإلى جانبه «الشيخ إمام» الكفيف بنظارته الشمسية وهو يمسك بيده  آلة العود، جميع المقومات «السينمائية» التي تجعلهما مجرد «شخصيات من محض الخيال» ابتدعهما وعي شعبي تحت ثقل الحاجة المُلحّة لخلق أبطالٍ متخيلين مغامرين يقصون حكايته ويدافعون عن حقوقه.

لكنهما وجدا حقاً، بل إنهما في الحقيقة شخصيات«شديدة الواقعية»، لا يمكن تخيلهما خارج «خط زمن» الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، أو خارج حارات مصر وشوارعها ونيلها ومعتقلاتها

يأخذ شعر «نجم» القارئ في رحلة ميدانية، يتخيل نفسه جالساً في «مقهى ريش»، أو سجين إحدى زنازين «القلعة» الضيّقة، أو عابراً حي «آدم حوش». يتحول« عبد الودود» جندي الحدود بلكنته الصعيدية، و«عم حمزة» و«ياسين» المعتقل و«بهية» إلى أصدقاء قدامى يألف القارئ أسماءهم وألمهم. تروي القصائد قصة «مصر» في أكثر مراحلها التاريخية غنىً وتقلباً، إلا أن الشاعر يتجاوز في شعره المحكي حدود البلاد، لتبدو القصائد بكليتها درساً طويلاً في التاريخ، نقرأ فيه عن « ريتشارد نكسون» وفضيحة «الوتر غيت»، ونسمع الراديو يذيع نبأ مقتل«غيفارا»، ونعايش مجزرة«تل الزعتر».
إلا أن «مصر» -وبالرغم من الحس « الأممي» الذي تحمله القصائد- ظلت المفردة الأكثر تكراراً،  وموضوع الحب الأول، هي الأم «الولّادة» والفتاة الجميلة التي ترتدي «الطرحة والجلابية»، هي الحبيبة التي ينتظرها الشاعر «رغم الشتا والبرد والرعد المخيف» وهي «الجرح والحلم العنيد». يبدو «حب الوطن» في القصائد جميلاً، رقيقاً، محرّكاً داخلياً أو شأناً شخصياً، وليس لزاماً خارجياً أو«فرض عين»!
يُظهر «عم أحمد» في قصائده تحيزاً واضحاً لفقراء بلاده و«شغيلتها» من عمالٍ وفلاحين، يرافقهم في ساعات عملهم الشاقة ويحكي قصة نضالهم. يقدم في قصيدة «التحالف» التعريف الأكثر إختصاراً ودقةً لأغنياء «الزمالك»بوصفهم «عكسنا أو ضدنا» نحن أبناء الشعب من الفقراء: «ولذلك إذا عزت توصف حياتهم تقول الحياة عندنا مش كذلك».
يعبر عن الفروق الطبقية في المجتمع المصري بسخريةٍ لاذعة حادة في «كلب الست» و«موضوع الفول واللحمة» و«ع المحطة». ويشن في«بقرة حاحا» حرباً شعواء ضد الفاسدين الذين ينهبون خيرات البلاد ممهدين الطريق أمام «الروم» وسائر أشكال التدخل الخارجي، فيما يتكرر صوت ثغاء البقرة «حاحا» كلازمةٍ شعرية تزداد تسارعاً وعنفاً مع تطور أحداث الحكاية ويخرج النداء مكتوماً يائساً: «والبقرة تنادي وتقول يا ولادي-وولاد الشوم رايحين ف النوم ». يرسم «نجم» صورة الجندي المصري، ابن البلد، في «دولا مين» و«رسالة إلى عبد الودود»، ويحدد مهامهم في حفظ كرامة البلاد  بعبارة «نعطش ولا نشربش عكار». 
تشكل قصائد«نجم»  في كليتها إرثاً ملموساً يعكس غنى الحياة اليومية ومشاكل الطبقات الكادحة وصراعاتهم الاقتصادية والسياسية في أهم المراحل التاريخية من حياة مصر، لكنها  تتعدى ذلك لتحكي قصة الكادحين في كل زمان ومكان على هذه الأرض، وتثبت بأنه ليس على الحديث «بلسان الشعب» والدفاع عن حقوق الفقراء أن يكون ممجوجاً جامداً مملاً..