لعبة الموت.. الجنود الأطفال

لعبة الموت.. الجنود الأطفال

ربّت الشيخ على كتف الصبي بإعجاب، عدّل من وضع البندقية على كتفه وهو يبتسم للولد العابس أمام الكاميرات، «مبارك عليك اليوم، أهلا بك بين صفوفنا»، يهمس الشيخ في أذن الصبي هذه الكلمات القليلة ويتركه ليستعرض رشاشه أمام العدسات

يرفع الصبي سلاحه إلى الأعلى بفخر، ما زال السلاح ثقيلاُ على الصبي، ويماثله بالطول، يطلق الصبي عدة رصاصات في الهواء مبتهجاً، لكنه سرعان ما يريح الرشاش على الأرض بعد أن أنهكه ارتداد الأخمص على كتفه، ترى، هل يحتاج هذا الشيخ لأولئك الصبية لنصرة قضيته ومواجهة أعدائه؟ لن يصمد أي منهم في أي معركة حقيقية قادمة، إنهم هنا بالتأكيد لأسباب أخرى.

لم تعد قصة تجنيد الأطفال بالجديدة والمثيرة كما كانت في الأيام الأولى من الإعصار السوري، فها هي المقاطع المصورة تتكاثر اليوم، وفي كل مكان، تتحدث بالصورة والصوت وعلى الدوام عن حفنة من الأطفال، وهم يتباهون بألعابهم الجديدة القاتلة، إنهم الفئات الأكثر تضرراً من مخلفات الحرب، قد يظهرون قدرة على التكيف ولكنهم سيظلون أكثر ضعفاً من البالغين. تهددهم أضرار جسيمة، ما بين عاهات دائمة، وأزمات نفسية، وصدمات ناتجة عن مشاهد دامية شهدوها، وقد ينتهي بهم المطاف إلى انحراف سلوكي من جراء دموية الحرب ومشاهدها العنيفة، فيلجأ إلى حمل السلاح متباهياً به معتبراً أنه رمز الأمان والقوة، بعد أن تمت إحاطته بالخبثاء من تجار الحرب يقدمون له المأوى والمأكل وأحياناً كثيرة حسن المعاملة، ليصبح جندياً مخلصاً ووقوداً لحرب لا علاقة له بها. أو لعرضه بخبث كمادة دسمة لاستجرار العواطف والتلاعب بالعقول على الفضائيات.
ليست هذه  العملية بالعفوية التي يصورها تجار الحروب وداعمو تلك الأفعال، فالأمر لا يقتصر على ردة الفعل الصرفة التي تغزو عقول الصغار وتسيطر على تفكيرهم، وهي ليست حكاية أسطورية عن الانتقام وإحقاق العدل والاقتصاص من الظالم، إنها آلية ممنهجة تعمل على إنتاج أجيال مشوهة..  رأينا آثارها مسبقاً في النزاعات القبلية في أفريقيا والحروب العرقية في يوغوسلافيا وعصابات تجارة الأفيون والمخدرات في أفغانستان وبعض دول أمريكا الجنوبية، إنه الاستثمار الأكثر نجاحاً بالنسبة لأولئك الخبثاء، أعداد كبيرة من مقهوري الحروب من الأطفال  رُمي بهم إلى قارعة الطريق بعد أن فقدوا كل شيء، عقول مرنة تواقة لملامح الأمان مهما كانت ضئيلة أو مبهمة، يدفع بهم في الصفوف الأولى أو يكلف كل منهم بمهام لا ترقى من قريب أو من بعيد لأبسط مظاهر الطفولة، كتعبئة الذخائر ورص القنابل وزرع الألغام أو كشفها أو حتى اختراق الصفوف المعادية محملين بالعبوات الناسفة والمتفجرات، بعد عملية دقيقة من غسل الأدمغة، تستغل وداعة تفكيرهم وتلعب على أوتار عواطفهم وتغتال ما تبقى من براءتهم، وتستفيد من تدفق كميات كبيرة من الأموال ترعى هذا «الاستثمار» وتقطف ثماره المسمومة، الثمار التي ستجعل من أولئك الأطفال آباء المستقبل وستزرع في عقول وقلوب الأجيال القادمة بذور العداوة الدموية.
لقد طورت الجماعات المتحاربة طرقاً وحشية ومعقدة لفصل الأطفال وعزلهم عن مجتمعاتهم وإجبارهم على حمل السلاح، وفي كثير من الأحيان تجبر تلك الجماعات الأطفال على الطاعة عن طريق الترهيب، وجعلهم خائفين باستمرار على حياتهم، فهم يدركون بسرعة أن الطاعة العمياء هي السبيل الوحيد لضمان بقائهم، وفي بعض الأحيان يجبرون على المشاركة في قتل أطفال آخرين أو أعضاء أسرهم، لأن تلك المجموعات تفهم بأنه ليس هناك من سبيل أمام هؤلاء الأطفال للعودة إلى ديارهم بعد ارتكابهم لمثل هذه الجرائم، فكلما كانت الحرب دموية أكثر، زاد احتمال أن يتم جر الأطفال إليها، ولتتحول معاملة الأطفال كسلعة السبب الأساسي وراء انخراط جماعات المتمردين في حملات تجنيد قسري من أجل ملء صفوفها بـ«الجنود الأطفال».
وفيما يتقاذف الجميع التهم حول هذه المصيبة يتم اغتيال جيل كامل وببطء شديد، يرسم أطفاله أحلامهم على الأنقاض ثم ينهضون حاملين أسلحتهم الثقيلة إلى ميادين المعارك، يَقتلون ويُقتلون، لم لا؟ إنها الحرب. إذا لم تقتل قتلك الآخرون، فلنسأل هذا الصبي الجالس أمام صندوق الذخيرة البعيد هناك، فليتوقف عن تعبئة هذه المخازن الكثيرة، ها هو يقول دون أن يتوقف عن عمله: «كنت أقتل العشرات فى دفعة واحدة، لقد أصبحت مهندس تفجيرات، أرأس وحدة عسكرية كاملة. أضع القليل من المتفجرات فتتطاير الأشلاء والشظايا. لكن عندما قتل رفيقي وصديق عمري أمام عيني، وعندما غطي دمه وبقايا لحمه وجهي وجسدي، كتب علي أن أحرم من نعمة النوم بقية حياتي، لا يمكنني لوم أحد على ذلك، لم يكن أمامي أي خيار آخر، لكني أحسد من كان لديه الخيار..».